المتضمن عشرة أعمال ميلادية ساحرة، لكنهن لم يبخلن على الجمهور فقررن تقديم الالبوم كاملاً بأداء حي مباشر. شارك عزفاً على البيانو كل من الملحن سمير طنب وابنة اخته فاديا نيار وشقيقتها الكبرى يمان على الكمان، بمهارة وإحساس فائقين.
رائعة كانت الامسية بل مذهلة، مما دفعني الى الكتابة وتوصيف بعض ما جرى في هذا الحدث من زاوية موضوعية علمية، وذاتية وجدانية من زاوية اخرى، اذ لو أرادت التوسّع لاستغرقني الامر مجلداً كاملاً.
أبرز ما لفتني في هذا العمل:
¶ التقنية العالية والحرفية والدقة والأمانة في إخراج الحروف واصدار الاصوات، وأن وقعت على بعض التموّج في الصوت (vibrato) فهو مدروس ومتعمّد، بهدف ادخال النشوة الى النفوس. وما يجب ان يُقال: ان الاخوات طنب يتمتعن بحناجر ذهبية نادرة، مصقولة وحاضرة لاداء اكثر الانواع الغنائية صعوبة من غربية وشرق عربية. مساحة تلك الاصوات (Registre Vocal) واسعة جداً وتغطي الطبقات الحادة المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة الجهيرة.
فرونزا تؤدي صوت الـ Soprano، الذي يمسك بالطرف الاعلى للحن الاساس.
وأمال تؤدي الـ Mezzo-Soprano عادة، وهو الصوت المتوسط عند المرأة، وغالباً ما يكون له دور التزيين والتحلية (Ornementation).
وأما فاديا فتؤدي صوت الـ Contralto، ويختص بالطبقات السفلى وتكون أهميته موازية لصوت السوبرانو، اذ يمسك بالطرفين الاسفل والادنى للحن. وتجدر الاشارة الى ان أمال وفاديا، وفي مواضع كثيرة. تتناوبان على اداء الـ Mezzo-Soprano والـ Contralto متزينتين ورونزا بالعلم الوافر والثقافة الواسعة، ويقمن بزيادة ما يجب من الزخرفة عند الاقتضاء لإضفاء مزيد من الجمال والروعة على اللحن (Fioriture).
¶ تآلف الاصوات وتداخل بعضها ببعض مردهما الى كون السيدات الثلاث أخوات. اضافة الى تدربهن المتواصل معاً، على اختلاف لافت في خامة كل صوت (Timbre)، والمساحات الضوئية المغايرة (Ambitus) وطريقة الاداء المتفردة (Interpretation unique).
¶ سهولة الانتقال من جملة موسيقية الى أخرى، بخاصة عند تغير الايقاع او المقام الموسيقي.
اصغ الى آمال مثلا في "يا مليك الاكوان" من الحان فؤاد فاضل تجد دليلا بينا الى ذلك. فالترنيمة مبنية على مقام عجم الصول (Sol Majeur)، وبعدها يتم الانتقال، بجنان وسلاسة وطواعية، الى نهوند الى (Mi mineur)، في بداية المقطع ":يا ملك الايام" والحجاز كار على السي (Si double harmonique) في "أنا مثل الزمان) والقرار يأتي على كرد السي (Si phrygien). كل ذلك يترك أثرا بالغا (Patetico) في المرنم والمتلقي فيصيران في وحدة حال.
¶ التأليف الموسيقي مميز أثير يسعى الى تجسيد مضمون نص الترنيمة بمقاطع لحنية بارزة (Figuralisme)، أصدق تمثيل لذلك ترنيمة "يا مريم" وهي من كلمات العميد الدكتور كمال الحاج وتلحين سمير طنب وأداء فاديا. يحتوي هذا النص على بصيرة نافذة وفلسفة عميقة ولاهوت واضح. وقد يكون مرتكزا، الى حد كبير، على ما عاشه الحاج وما خبره.
حاول الملحن المبدع طنب، وببراعة كبيرة، تجسيد المضمون بما يتوافق معه من لحن هادئ، ناقم، ثائر، متمرد، تائب… باللجوء الى مقامات متنوعة وايقاعات مختلفة. فالترنيمة من مقام نهوند الـ (LaMINEUR) تستهل بمنادجاة العذراء: "يا مريم أما ترجعينني الى طفولتي / الفلاسفة أخمدوا ايماني بجهالاتهم / الحكماء هدموا كوخي بضلالاتهم / وحدك أشعلت ايماني / وحدك بنيت كوخي / يا رجائي يا حياتي يا صديقتي يا مليكتي…”.
نجد أن اللحن يعبر بصدق وأمانة عن كل كلمة، لا بل عن كل حرف ونفس.
وعند تسليم الحاج أمره الكلي الى العذراء مريم وعنايتها في مقطع "يا قديسة مريم… يا والدة الإله" يأتي الملحن بمقام الكرد (Phrygien) ليصور فضاء ذاك التسليم الكلي. وعند مقاربة الكاتب موضوعي الجهل والموت يجيء الملحن بنغم حزين شجي، هو الحجاز كار (Double Harmonique) يحمل بطياته الثورة والتمرد على الجهل والموت ملتمسا من العذراء مريم ان تكون نوره "كوني نوري" وحياته "كوني حياتي"، ما جعل اللحن متقمصا الكلام والمعنى. وعند ارتداد الاديب وتوبته وعودته الى أحضان شمس الحق ووالدته نرى الشروق ماثلا في مقام العجم (Majeur)، وهذه التوبة الموصلة الى الانبعاث والقيامة. والتنعم بالمجد الشماوي الابدي تألمسه الآهات الختامية المتداخلة بروعة وسحر وطلاوة، فتشعرنا وكأننا أصبحنا، بجانب الملائكة، نحلق في السماوات. كل ذلك عبر صوت دافئ، ساحر، عظيم الأثر، كبير العرض والمساحة، يسطو بنا فنحس وكأننا معه نحتضن الارض والسماء.
وشاهد ثان يدعم ما ذهبنا اليه ترنيمة "غيرك ما حدا" بالعامية للأديب المرهف جان أبي غانم ولحن سمير طنب ايضان والتي أخذ منها عنوان الألبوم، على ما أعتقد، وتدل الى حنو المسيح وتواضعه وابتعاده من المظاهر المخادعة، تبدأ بـ: "غيرك ما حدا/ بيوصل عَالهدا/ لا مواكب ولا ناس/ لا محافل ولا غراس/ شو بتهوى يا حبيبي؟! وتكون الطير ونحنا المدى" المقام الاساس هو كرد الـRé، أما لازمة المقطع الأول فتدخلنا في اطار مقطعها، ونجد اللحن يعبّر بأمانة عن محتواه لا سيما: "بيطيلع من النار/ رؤاد العنف والثوار/ عشاق الليلوالاشعار/” بصوت رونزا رهيف الحس والذوق، فائق الدقة، شديد العذوبة (Dolcissino) والحازم (Fermezza) عند الحاجة، يصل الى طلبات بالغة العلو من دون أن يخدش أذن المتذوق ويؤذيها.
ثم المناجاة المتضمنة بحناياها بعضاً من اللوم والعتب الخجول" والتي صورتها الموسيقى أفضل تصوير في "تعا يا حبيبي تعا". والمقطع الأخير: "وين اختفيت بالإيّام الحزيني/ اشتاقتلك لبيوت/ احترق قلبا المديني…” نجده يستدعي تغييراً لا في المقام وحسب بل في الايقاع أيضاً (Fox) من دون ان نشعر بضعف او انقطاع. ومن ثم تعاد اللازمة، ولكن بفوارق متناهية في الدقة (Nuances) رائعة الوقع تتدرج من الخفيف الى الأكثر قوة (Crescendo) لتؤكد الفكرة – المحور "غيرك ما حدا" وترسّخها. كل ذلك في قالب وإطار جميلين وانسيابية قلّ شبيهها في زمننا.
¶ التوزيعان: ثلاثي الصوت (3 Voix égales) والموسيقيّ يأخذان بالألباب جراء الانتقال السلس والمطواع من الـ Harmonie الى الـContrepoint والـFugue. من الأمثلة الواضحة على ذلك الـMedley الختامي "هللويا" من توزيع الكبير المبدع مايك حرّو وتأليفه الموسيقي.
2) ترنيمتا الـAve Maria لـCaccini – توزيع Miserachs وهللويا للأستاذ الياس رحباني تساعدان على التأمل (Méditation) في عظمة الطفل الإلهي ووالدته العذراء مريم وتدخلاننا في عالم مليء بالنقاء والصفاء والسلام وتصلحان لتكونا مادة دسمة ورائعة لأي سجود (Adoration) ما اعاد لي ذكريات جميلة لا تنسى خلال زيارتي Medugorje العام 2005.
3) من باب التنويع عن CD ميلاديات (الألبوم الأول للـ(TriOrient) غاب الـACappella في ترنيمة كاملة، أي الانشاد الذي يؤدي صوتاً لا يرافقه عزف.
4) لا تغربن عن البال المشاركة الفاعلة والقيمة للأستاذين جوزف فخري ومارك أبو نعوم في الاعداد الموسيقي والتوزيع والعزف.
5) سجل الألبوم في ستوديو بسّام دكاش بجودة عالية وهو من توزيع Light Track.
6) إن هذا الـCD جدير بالعناية والاهتمام البالغين، فعلى كل مؤمن (أياً كان دينه) وكل متذوق غناء وموسيقى ان يضعه في صدر مكتبته الموسيقية وقلبها.
ختاماً، أيتها السيدات، في انشادكن لامسنا السماء وجلنا في رحابها، وعند انتهائكن عدنا لنقبع في هذه الفانية، فرجاء لا تكفن عن الترنيم والغناء. معكن شعرنا بأن الايمان موجود وبقوة وأن الفنون، بخاصة الغناء والموسيقى، بألف خير.
هنيئاً للبنان ولنا بهكذا عائلة تتمتع بإيمان صادق حيّ وروحانية سامية واتحاد لا مثيل له وإبداع فني متكامل لا ينضب، وما أحوج ايامنا هذه الى فن راق وترنيم آسر (Incantation) يكون انسجام وتوافق وتكامل فيه، بين عناصره الضرورية من نصوص ذات مستوى رفيع وألحان خالدة وتوزيع هارموني وأوركسترالي بالغ الجودة وأصوات نادرة، مثقفة ومبدعة، كأصوات الأخوات طنب.