بقلم د.الياس مخول
غالبًا ما كان الأطباء يأتون من اليونان، ويعملون لدى الأباطرة. لكنهم موجودون أيضًا في الميادين أو استقرّوا في المدن حيث أنشأوا عياداتهم الخاصة. ومن بينهم نساء.
لعدة قرون، استغنى الرومان كليّا عن الأطباء، حيث كانت مساوئ الحياة تعالَج بالطرق البسيطة. وهكذا كان ماركوس بورسيوس كاتو أو كاتو الأكبر (234-149 قبل الميلاد) يشيد بمزايا الملفوف للحفاظ على الصحة. قد تكون الأوبئة هي التي أدت إلى ازدهار الطب: يذكر تيتوس ليفيوس (59 ق.م. – 17 م) “وباء” أتى في العام 293 ق.م. على نصف الرومان. عندها أرسل الناجون وفداً إلى إبيداوروس، حرَم إله الصحة أسكليبيوس، للاحتفال بعبادته ابيكس روما: على شكل ثعبان، يتم تكريمه في جزيرة تيبرينا (التيبر).
بالرغم من شكاوى كاتو، استقر الممارسون للشعائر في الجمهورية، مثل أرخانغاثوس، وهو يوناني من البيلوبونيز مارس المهنة منذ عام 219 قبل الميلاد. من جهته كان لأغسطس (63 ق.م – 14 م.) عدة أطباء شخصيين، مثل أنطونيوس موساس، الذي منح لقب الفروسية لأنه أنقذ “الإمبراطور”. كان الأطباء القدماء مستقلين، وعلى الرغم من وجود مدارس كبيرة، إلا أنهم ظلوا غير رسميين. كان لهم حضور في برغامس والإسكندرية وفي جزيرة كوس، وهي من مجموعة جزر الـدوديكانيسيا.حيث عاش أبقراط. أتيح للطبيب أن يخضع للتدريب إعتبارا من سن 14 عامًا. وإذا كان البعض، مثل غالينوس (القرن الثاني)، قد درسوا لمدة عقد من الزمن، فإن آخرين اكتفوا بستة أشهر من الإعداد، مثل المتدربين عند ثيسالوس الثرالوني، رئيس الأطباء المنهجيين وأحد معاصري غالينوس.
مرضى مدلَّلون أم لا
في القرن السادس نصح إيسودورُس الإشبيلي (حوالي 560-636)، الطبيب بأن يكون متفوّقا في النحو والبلاغة والجدلية والحساب والهندسة وعلم الفلك وحتى… الموسيقى. أمّا غالينوس المرجع في الطب القديم، فأوصى بشكل خاص بأن يتم الإطلاع على نصوص أبقراط وتعلم التسمّع (كشف الصدر بالتسمع) والتشخيص والجراحة من مرشد. وبعد الإنتهاء من فترة التدريب، ينظم العديد منهم جولاتهم في المدينة، تبعا للدعوات التي يتلقونها. ومع ذلك، فإن الوقت المخصص للمريض يختلف بشكل كبير بحسب شدة المرض ومؤهلات الطبيب وإمكانات المريض المالية.
بشكل عام، للطبيب مكتب: غرفة انتظار وغرفة عمليات ومحترَف يخزن فيها أعماله ويحافظ على أوانيه ويجهز مستحضراته بالغلَيان أو ضماداته. وفي هذا الصدد يوصي غالينوس الأطباء بجمع الأجزاء المقوِّمة (العناصر التي تدخل في تكوين مركَّب) وإعداد كل شيء بأنفسهم، لأنه يحذّر من الصيادلة الجشعين! من جانبه، يدعو سيلسوس (القرن الثاني) إلى “الصداقة” بين الطبيب ومريضه، سواء فيما يتعلق بمسائل الراحة أو الثقة: إنها مسألة جذب انتباه الممارس، ولكن أيضًا كسب قبول علاجاته لدى المرضى”.
علاجات من النساء ولأجلها
تتلخص نظرية جسّدها أرسطو وباتت تقليدا فلسفيا في أن أجساد الذكور والإناث غريبة عن بعضها البعض وتتطلب رعاية مختلفة. وعلى العكس من ذلك، يرفض جراح مثل هيروفيلُوس هذا المبدأ، إذ يرى أن التعامل مع الصحة يجب أن يسيرعلى قدم المساواة بين الرجال والنساء، باستثناء ما يتعلق بالحمْل أو الرضاعة الطبيعية أو الحيض. تم تخصيص جملة من أطروحات أبقراط لأمراض النساء ومداواتهن وحياتهن الخاصة. بعض النساء في العصور القديمة أيضًا قد امتهنّ الطب. كنّ مساعدات يرافقن الأطباء أو يعملن مرافقات عندما يعتنون بالمرضى. هناك أيضًا قابلات، كثيرات ومدربات في معظم الأحيان داخل دائرة الأسرة، مسؤولات عن حالات الحمل والولادة بالإضافة إلى مشاكل أمراض النساء. في القرن الخامس، أشار قانون جوستينيانس إلى أن “الأطباء من كلا الجنسين” حقيقة قديمة. يمكننا أن نذكر رِستيتوتا، في القرن الأول، التي قدمت إهداءً علنيّا لمعلمها الطبيب الإمبراطوري كلوديوس ألكيموس. وفي الفترة نفسها، تبرعت الطبيبة الليونية (نسبة الى مدينة ليون) ميتيليا دوناتا بنصب تذكاري للمدينة، للتدليل على المكانة الاجتماعية العالية والنجاح المالي. في أواخر القرن الرابع، تحدث الشاعر أوسون من مدينة بوردو عن عمّته، “الخبيرة مثل الرجل في فن الطب”.
قوانين وتماثيل من أجل الطب
تباينت حالة الأطباء القدماء بشكل كبير. بعضهم مواطنون يمارسون المهنة بحرية، لكن البعض الآخر أجانب يخضعون لقيود. نصادف أيضًا عبيدًا: تم تدريبهم بالفعل أو استدعاؤهم للعمل، وهم يعملون لصالح مالكهم، في عيادة أو في حقل زراعي، بما في ذلك المراعي. في بعض الأحيان، يمكن تحريرهم مقابل الخدمات المقدمة، وهذا ما يسمى الأطباء الأحرار. وحدث أن جرى منحهم هذه الحرية بالوصية، بالميراث أو بدونه: عندها تُطرح مسألة ولائهم… يمكن للأطباء، سواء كانوا أحرارًا أو أرقّاء، أن يكونوا مستقلين أو مرتبطين بمؤسسة ما؛ ميناء أوستيا، وهو نقطة عبور رئيسة، كان لديه فريق طبي خاص به، الأمر نفسه ينطبق على فرق المصارعين، الذين يجب عليهم متابعة مقاتليهم وعلاجهم.
من الناحية النظرية، ينبغي ممارسة الطب مجّانًا،
لكن البعض جمعوا ثروات، مثل كريناس الذي
أوصى لمدينته ماسيليا عشرة ملايين سِستِرس (عملة رومانية قديمة)
ومع ذلك، كان الأطباء يتفاوضون على بدل أتعابهم على أساس كل حالة على حدة، دون أن تفرض الجمهورية أو الإمبراطورية أي قواعد على الإطلاق. وبالتالي فإن رفاهية الطبيب إعتمدت بشكل مباشر على طبيعة مرضاه وإمكاناتهم. في ماسيليا (مرسيليا)، أوصى كريناس للمدينة عشرة ملايين سسترس لتمويل بناء السور المحيط بها. إذا كان هذا التبرع يكشف عن دخله الكبير، فإنما يظهر أيضًا أن كريناس شاء تخليد ذكراه في العقول وكذلك في الحجر. والحال أن زينوفون القوسي، طبيب الإمبراطور كلوديوس، يعرف الحجر جيدًا لأنه تم تكريمه خلال حياته بالتماثيل! ومع ذلك، لا يتمتع جميع الأطباء بمثل هناء العيش هذا. يمكن أن تؤثر المهارات المتنوعة وفرصة انتشار الأوبئة على الحياة المهنية. إن طُعمَ الربح، الحقيقي أو المفترض، يعزز الشائعات الضارة: يقال إن الطبيب يعمل دائما على تفاقم حالة المريض قبل إنقاذه، بهدف بناء سمعته وتضخيم فاتورته. عندما يتعلق الأمر بالدعاية والإعلان، لا يقف بعض الأطباء عند حدّ. يذكر بلينيوس الأكبر (23-79 م) تيسالوس الذي كان يتنقل دائمًا، في عهد الإمبراطور نيرون، برفقة جماعة من تلاميذه. هذا العرض يعزز صورة السمعة العظيمة، من أجل جذب المرضى الساذجين.
مدارس منافسة، لكنها متقدمة بلا منازِع
المنافسة دائمة بين آل ميديشي الرومان، المنقسمين إلى طوائف “تابعين” أو بِدع، تتمتع بحرية “الاختيار”. بعيدًا عن المعنى الديني المعاصر، هي مجموعات غير رسمية يشاطر أعضاؤها في طريقة مشتركة إلى حد ما. وأقدم طائفة هي طائفة العقائديين، ورثة أبقراط. ومن خلال الملاحظة والتجريب، يتمثل منهجهم في تحديد الأسباب الخفية للأمراض من أجل علاجها والتمكن من الشفاء. ولكن، في القرن الثالث، حدث تحول كبير: في الإسكندرية، كان هيروفيلوس أول من قام بتشريح أجسام بشرية. أعماله الطليعية في علم التشريح أحدثت شَرخًا: فقام جيل جديد من الأطباء بتأسيس ما يسمى بالتيار التجريبي، الذي رفض الإختبار لصالح مراقبة الأعراض والتشابه مع حالات سابقة. هيمن الميثوديون (المنهجيون)على العصر الإمبراطوري. وبما أنهم من أنصار بينَ بَين، إعتمدوا علي المراقبة الحواسية أثناء استخدام المعدات لتوسيع إدراكهم الحِسّي. في الواقع، أن المنهجيين كانوا منقسمين ألى أبعد حدّ، لأنه لم يوجد طبيب ينسق تجربته مع الآخرين. كما كانوا عُرضة لانتقادات شديدة من غالينوس الذي لم يتردد في وصفهم بالبُلْه!
تم دمج الأطباء رسميًا في الجيش الروماني، في عهد الإمبراطور أغسطس. سواء تم تجنيدهم أو تعبئتهم، فهم أيضًا جنود: في روما، يُظهرهم عمود ترايانُس، الذي تم تشييده في القرن الثاني، بوضوح وهم يرتدون الدروع، أثناء القتال. بحسب التقديرات كان هناك طبيب لـ 250 بحارًا أو 500 من جنود الفيلق، مع قوة عاملة إجمالية تبلغ حوالي 1000 طبيب ممارس يدعمهم “ممرضون” و”صيادلة” و”الوثائقيون” (أمناء المحفوظات) التابعون لهم.
تميُّز المستشفيات الميدانية العسكرية
داخل المعسكرات، كان الطب العسكري يُمارس في مبان متخصصة: valetudinaria (مستشفيات باللاتينية). أقيمت تلك المنشآت بشكل رئيسي على الحدود المحصنة للإمبراطورية. ثمة أماكن أخرى كانت تجري فيها أنشطة طبية أو جراحية، مثل حمامات الحمّة (بالمياه المعدنية الحارّة) القريبة من معسكر فيتيرا (زانتن في ألمانيا). وأخيرًا، في بعض الأحيان كان المدنيون هم من يعالجون الجنود، لأن الثكنات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبلدات المحيطة.
غالبا ما كان “المستشفى الميداني” يخضع للخطة عينها. هو عبارة عن مبنى مستطيل الشكل مكوّن من طابق واحد، يتمركز حول فناء كبير، تتخلله نوافذ تسهّل التهوية والإضاءة، ويضم أحيانًا مذبحا مخصصًا لأسكليبيوس أو غيره من الآلهة الشافية. كان المستشفى يبدأ بقاعة كبرى لاستقبال المصابين، وإذا لزم الأمر، للسيطرة على تدفق الجرحى. وكان يتسع لـ 2.5 إلى 5% من القوى العاملة. في القرن الخامس، أدى تراجع الجحافل وإغلاق المعابد الوثنية إلى الاختفاء التدريجي للممارسات الطبية اليونانية الرومانية. فحلّت الكنيسة المسيحية محل الأطباء وهي بداية العلاج بالتشفُّع، الذي يعزز الشفاء من قبل القديسين، وكذلك الحج إلى رفاتهم، وازدهرت أماكن استقبال المسافرين والفقراء والمرضى في الإمبراطورية الغربية القديمة، وغالبًا ما كان يديرها رجال دين أو أشخاص عاديون دون إعداد طبي.
إسعافات أوّلية، في الإنيادة، تحت ريشة فيرجيل. “الطبيب اليوناني يابيكس يبذل قُصارى جُهده لإزالة
رأس السهم من ساق إينِياث بمشبك قوي”، وبجانبه ابنه الباكي أسكانيوس. إلى اليسار فينوس، والدة إينياث.
لوحة جدارية قديمة من بومبيي