القزي: لبنان أرض القداسة ورائحة البخور أقوى من نيران الحرب
د. منى طوق
طوباوي جديد يُرفع على مذبح الكنيسة، يفوح من تعاليمه عطر القداسة، تتجلى صفاته بالتفوق الإيماني، والرجاء المستميت بالفقر والطاعة، المحبة والصبر، الوداعة والعدل، الحق والتواضع…تحمله السماء زادًا فتقدمه قرابين…تغتني الحياة المسيحية بفكره اللاهوتي وثقافته المترفعة بالزهد والصلاة… فهو البطريرك اسطفانوس الدويهي(2آب 1630- 3 أيار 1704) الذي ستضيق ساحات بكركي بالمؤمنين في الثاني من آب، هو الذي سيجمع كل اللبنانيين بفرح اللقاء، هو سيأتي كالنسر الذي يحلّق فوق كل الطيور كما قال عنه الأب بولس القزي. تليق به الكنيسة مكرمًا وتزدان بمسيرته الصلبة تعلقًا بالمسيح ودرب الجلجلة للوصول الى الخلاص. هو من أبرز المؤرخين اللبنانيين في القرن السابع عشر، لذلك لُقب بـ “أبو التاريخ الماروني”، “عامود الكنيسة المارونيّة”، “ذهبيّ الفم الثاني”، “عظيم الأمة المارونيّة”، و”مجد لبنان والموارنة”، هو البطريرك السابع والخمسون للكنيسة المارونية الذي سيتمّ إعلان تطويبه رسميًا يوم ٢ آب ٢٠٢٤، وهو يوم ذكرى ميلاده في العام ١٦٣٠، في قداس احتفالي في بكركي بعدما وافق البابا فرنسيس على مراسيم صادرة عن مجمع دعاوى القديسين تتعلق بتطويبه.
وجميل ما قاله الأب القزي “نريدُ أنْ يعرِفَ العالم كله، من خلال أهل الإعلام، أنَّ لبنان لا يُصدِّرُ حروبًا بل سلامًا، فلبنانُ أرضُ قداسة ومحبّةٍ وسلامٍ وفرح، ورائحة البخور المنبعثة من وادي القدّيسين ومن كنائِسِهِ أقوى من رائحة البارود وحرارةُ قداسته أقوى من حرارة نيران الحرب، وشعبيّة قديسيه ومحبّوهم أوسع بكثير من شعبيّة وجمهور أي قائد وزعيم”.
لهذا الحدث العظيم، وتمهيدًا ليوم الثاني من آب 2024، نظمت رعية اهدن زغرتا ومؤسسة البطريرك الدويهي، رحلةً للاعلاميين على خطى البطريرك المكرم اسطفان الدويهي في اهدن بعنوان “حضورك بإهدن نعمه وبركة”.
بداية اليوم الطويل، لقاء في الصرح البطريركي في بكركي حيث وقّع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على الصورة الرسمية التي ستعتمد لتطويب البطريرك مار اسطفان الدويهي بحضور المطران أنطوان عوكر وطالب دعاوى القديسين الأب بولس القزي والاعلاميين والمصورين. وأثنى البطريرك الراعي في كلمته على دور الاعلاميين في نقل الرسالة الروحية والوطنية بكل أمانة ، واصفًا الطوباوي الجديد بأنه “لم ولن يأتي مثيلاً له لا من قبل ولا من بعد” وهذه الصورة هي للبطريرك الدويهي عندما كان في المدرسة المارونية في روما منذ ١٠٠ عام. وتسلم البطريرك الراعي من الأب القزي الكتاب الأخير من ملف دعوى التطويب، الذي ألقى بدوره كلمةً تناول فيها حياة البطريرك الدويهي والمراحل التي رافقت التطويب وصولاً الى هذا اليوم”.
ثمّ انطلق الإعلاميون ببركة البطريرك الراعي ورفقة الاب القزي في رحلة الحجٍ إلى إهدن، حيث ولد البطريرك المكرم اسطفان الدويهي وتعمّد وترعرع وسِيّم كاهنًا. فكانت المحطة الأولى بعقد مؤتمر صحفي بحضور وزير الاعلام زياد مكاري، شرحت خلاله الدكتورة ندى الياس والبرفسور بيار زلوعا المراحل التي رافقت درب تطويب البطريرك الدويهي والبحث عن رفاته من الناحية العلمية.
نفاع: البحث عن إبرةٍ في كومة قش
أكدّ النائب البطريركي العام على منطقتي جبّة بشرّي واهدن- زغرتا المطران جوزيف نفاع أن “هذا الحدث الذي نعيشه اليوم هو فريد من نوعه، واجتمعنا كي نضع بين ايديكم حصيلة ثماني سنوات من البحث للوصول إلى مرحلة إعلان التطويب”، مشددًا بأنها عملية البحث “كانت شاقة ومعقدة، إلا اننا وبإيماننا استطعنا تحديد رفاته التي أصبحت الآن موجودة في مدفنٍ خاص داخل كنيسة مار جرجس في اهدن”. وركز على صعوبة المهمةً “فعملنا بإذن من البطريرك الراعي ومساعدة وزارة الثقافة حتى استطعنا ان نتعرف على عظام البطريرك الدويهي. انها مرحلة البحث عن إبرة في كومة قش، فعلاً نحن شعب عظيم”.
الياس:استطعنا الوصول الى رفاة البطريرك الدويهي
وشرحت عالمة الآثار والأنتروبولوجيا الدكتورة ندى الياس عن البحث عن الرفات “في ربيع ٢٠١٨ تم إطلاق البحث عن رفات البطريرك الدويهي في مدفن القديسة مارينا. وشملت الترتيبات الأثرية التي جرت في مدفن القديسة مارينا حيث وجدت كومة عظام من دون اي ترابط مفصلي، تم نقلها جميعاً إلى الكرسي البطريركي في الديمان ومن هناك وفي مختبرٍ خاص أنشء لهذه الغاية بدأت فحص الحمض النووي لأربع وأربعين شخصاً. واستطعنا الوصول إلى ٣٨ شخصاً كاملاً، من بينهم رفاة البطريرك الدويهي”.
الزلوعا:كان مشهد العظام المتراكمة مريباً
عبّر عالم الأحياء البروفسور بيار الزلوعا عن سروره بالعمل مع المجموعة على توثيق تاريخ بطريرك من اهدن، قائلًا: “لقد كان مشهد العظام المتراكمة فوق بعضها البعض مريباً جداً، لكن مع وجود الايمان لا شيء صعب، وتمكنا بعد عمل دؤوب من التوصل لتحديد جثمان البطريرك الدويهي لأن العظام كانت تتكوّم وحين تكون فوق بعضها تأخذ من بعضها وهذا يُصعّب العمل. لذلك إعتمدنا على العظمة التي تقع مباشرة خلف الأذن التي لا تتفتت بسهولة. وعلى هذا الأساس تأكدنا من نسبة 98 في المئة من الرفات العائدة للبطريرك الدويهي. والجميل أن البطريرك من أب وأم من آل الدويهي، وهذا ما سهّل الأمر”.
القزي: ليس ضرورياً ان يبقى الجثمان بشكله
أضاء طالب الدعوى الأب بولس القزي في كلمته على بعض التفاصيل التي لا تعرفها إلا قلة قليلة من النّاس، وقد عشناها في كلّ المراحل التي سبقتْ إعلان المكرّمينَ والطوباويين والقدّيسين. وعن سؤال هل يمكن ان يصبح جثمان الطوباوي رفاتاً؟ أجاب القزي: “ليس ضرورياً ان يبقى الجثمان بشكله ليستحقّ المرء أن يسير على درب القداسة”.
مكاري:التطويب نعمة
تحدث وزير الاعلام في حكومة تصريف الأعمال المهندس زياد المكاري عن حياة البطريرك الدويهي عن أهمية التطويب التي اعتبرها نعمة في هذه الظروف الصعبة والخطيرة، متمنيًا أن يصبح البطريرك الدويهي قديساً أممياً كما هي الحال مع القديس شربل، الذي تؤمن به كل الشعوب ومن كل الطوائف، داعياً الاعلاميين الذين لهم دور أساسي الى نقل الصورة الجميلة عن لبنان، والتي تعطي أملاً للبنانيين ليبقوا مشبثين بأرضهم بكل طوائفهم.
فكلمة ختامية للخوراسقف اسطفان فرنجيه، الذي شكر كل القيمين على هذا الحدث العظيم وكل من سهّل هذه المسيرة الطويلة ومن ساعد مادياً لتذليل العقبات، لا سيما الاعلاميين على تلبيتهم للدعوة وتعاونهم لنقل الحدث من خلال وسائلهم الاعلامية.
كرم : البطريرك شفاني
إلى تمثال البطريرك الدويهي، حيث وقفت السيدة روزيت الدويهي كرم، وشرحت بكل ثقة كيف تمت عملية شفائها على يد البطريرك الدويهي وروت أعجوبة الشفاء التي كانت سبباً في نقله من درجة التكريم إلى درجة الطوباوية. ورفعت صوتها قائلة للصحافيين “آمنوا وصدقوا أن البطريرك شفاني من مرضٍ مستعصٍ، قطع الأطباء الأمل من شفائي فغرفت بكل ايمان كمشةً من التراب الموضوع تحت التمثال ووضعتها في فمها، لتؤكد أن هذا التراب مقدس، وقالت: “من هذا التراب أكلت فشفيت.”
ثمّ انتقل الوفد إلى دير مار سركيس وباخوس ومنه إلى كنيسة القديسة مارت مورا وكنيسة مار يعقوب وكنيسة مار شربل ، بعدها محطة تأمل وصلاة في كنيسة سيدة الحصن، ثم توجه الجميع الى مأدبة الغداء في بيت الكهنة في اهدن، التي جمعت الاعلاميين لتذوق الكبة التي يتميز بها أهل إهدن والجوار، وتقاسموا اللقمة الطيبة والجلسة الجميلة المفعمة بروح الضيافة والكرم.
واختتمت الجولة بلقاءٍ في دارة نائب رئيس مؤسسة البطريرك الدويهي النقيب جوزيف الرعيدي على جلسة قهوة وفاكهة وقلب مفعم بحب الضيافة من أجل المكرم.
جمالية اليوم الطويل
الأب بولس القزي الحاضر أبدًا منذ وصول الاعلاميين الى باحة جامعة الكسليك للانطلاق الى بكركي ومن ثمّ الى إهدن، الى الأمكنة التي وطئت قدمي البطريرك اسطفان الدويهي. فقدّم لنا الترويقة منقوشة وعصير، يهتم كالأم مع أبنائها ويتفقد الجميع عند كل استراحة، ويغني فكرنا بالأخبار التاريخية عن البطريرك الدويهي من وقت لآخر، فتعرفنا على الطوباوي الدويهي عن كثب من فم الأب القزي لما سرده من وثائق بطريقة جذابة. وفسّر الكثير عن كيفية التفتيش والعمل للوصول الى يوم 2 آب باعلانه طوباويًا على مذابح الكنيسة في بكركي.
وما يلفت النظر عندما وصلنا الى مداخل إهدن، حيث تعلو صور البطريرك في كل الأمكنة ، في الشوارع وعلى أبواب المحال وفي ساحة الميدان وجدران الكنائس… حقًا تجد الفرح والسعادة يعمُ الأرجاء بما فيها. الأمكنة مقدسة لأنها كانت شاهدة على قداسة البطريرك، من كنيسة مارماما الأثرية ومارت مورا ودير ماريعقوب الأحباش ودير مارسركيس وباخوس وسيدة الحصن…الجرن الذي تعمّد فيه، والكنيسة التي سيم فيها كاهنًا والأخرى التي خدم وعلم فيها. لا تزال حاضرة بالشكل والمضمون، ومنها تفوح القداسة لقديس من شمال لبنان، من إهدن، قلب هذا الشمال.
ومن المهم القول بأنه بعدما تلقى تعليمه في روما، حيث كان يُلقب بالإهدني نسبةً لبلدته إهدن، عاد إلى مسقط رأسه ومارس التعليم وتابع دراسته بشكل مكثف حتى خسر نظره، وتقول بعض الروايات أنه طلب من السيدة العذراء أن تعينه على العمل الرعوي فعاد اليه نظره بشكل فوري. والمفارقة أنه في شهر أيار المخصص للعذراء مريم تمّت زيارة الحج الى الأمكنة التي لا تزال شاهدة على قداسته من قبل الاعلاميين ليكونوا شهودًا للقداسة والقديسين أمام مجتمعهم والناس من حولهم.