شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | عودة الاسكندر الى بابل آخر أيام ذي القرنين في الشرق بقلم د. ايلي مخّول
عودة الاسكندر الى بابل آخر أيام ذي القرنين في الشرق بقلم د. ايلي مخّول
لوحة بريشة الرسّام شارل لو برون، 1665، تمثّل الإسكندر الكبير لدى دخوله مدينة بابل

عودة الاسكندر الى بابل آخر أيام ذي القرنين في الشرق بقلم د. ايلي مخّول

د. ايلي مخّول

ولد الاسكندر الكبير (356- 323) ق.م.) في مقدونيا وتوفي في بابل. تعلّم على أرسطو. خلَف أباه فيليبّس وعزم على فتح أمبراطورية الفرس التي امتدّت من البحر المتوسط الى الهند فانتصر عليهم في إيسوس 333 ق.م. ثم في سواحل فينيقيا بعد أن حاصر صور ثم في مصر حيث أسس الاسكندرية. أخيرا تتبّع داريوس في العراق فانتصر عليه في كوكاميل بالقرب من أربيل. 331 ق.م. وتابع زحفه الى أطراف فارسو وتجاوزها الى ضفاف نهر السند. وذو القرنين من أعظم الغزاة وأشجعهم. عمل على تنظيم غزوته بصهر المنتصرين والمنهزمين في شعب واحد. غير أن الامبراطورية التي أنشأها لم تعش بعد موته فجرى تقسيمها بين قادته العسكريّين. أنشأ الكثير ممّا اعتبر في ما بعد العالم المتحضّر وعزّزت غزواته انتشار الأفكار والعادات اليونانية في غرب آسيا ومصر وفتحت بالتالي السبيل أمام الحضارة الغنية للعصر الإغريقي.

   عندما اضطرّ الإسكندر إلى وقف زحفه نحو الشرق في آب 326 ق.م. بات بعيدا من يوم العودة الى وطن لن يراه بعد الآن خارج أحلامه المحمومة أبدا.

بعد أن أجبروه على التخلّي عن التوغّل في عمق الهند، أبدى رفاق درب المنتصر على داريوس قلقهم من تصرّفه العنيف واليائس. ففي سباقه باتّجاه المحيط الهندي سيلجأ ملك مقدونيا الى المزيد من المغامرات العسكرية. أمّا وقد جرّد من فرح الطفل أسير القدَر فقد أضحى كئيبا، سريع الغضب الشديد، سوداويّا. هل يبحث عن الموت في شرق عالم لن يصبح سيّده أبدا؟ أم يواصل إخضاع شعوب نافرة كي لا يعطي الهنود الإنطباع بأنه يتقهقر؟ لم يتخلّ الاسكندرعن عزمه القيام بغزو بحريّ. فعلى ضفاف الأهواز أمر ببناء 80 سفينة حربية وعدد كبير من بوارج النقل التي أقلّت في تشرين الثاني 326 ق.م. ثلث جنوده مع الخيل والأمتعة. والهدف ما زال بلوغ البحر الخارجي.

لا يجمع الأهواز والسند (هندوس) جامع بنهرين طويلين هادئين. لكن المعارك التي جرت على ضفافهما تميّزت بضراوة مخيفة. في شباط 325 ق.م. أصيب الاسكندر بسهم في صدره أثناء اقتحام عاصمة المالوه على ضفة الأهواز اليمنى. كانت أخطر اصابة يتعرض لها منذ بدء حملاته. ففقد الوعي وسط العراك الصّاخب. واعتقد رفقاؤه الذين نقلوه على درع الأمان أنه فارق الحياة. فاستشاطوا غيظا واستولوا على المدينة العاصية وأبادوا 50 ألف رجل وامرأة وطفل اختبأوا وراء أسوارها.

في الوقت عينه تمّ نقل العاهل الجريح الى معسكر إيفايستوس. وأوكل الى برديكاس، القائد الثاني لجيشه مهمة انتزاع أسَلة السهم التي استقرت بين ضلعين في عمليّة دقيقة. أخيرا بعد ساعات طوال من الغمّ رأى جنود الاسكندر ملكهم خارجا من الخيمة يترنّح، لكنه حيّ. فعمّت البهجة. وبعد أن عانى على مدى ستة أشهر تمرّدا داخل جيشه، ها هو من جديد القائد بلا منازع.

باتالا كانت آخر محطّات الاسكندر الهندية وقد بلغها في كانون الثاني 325 ق.م. في تلك المدينة الواقعة الى الشمال من دلتا السند غير المضيافة مكث الفاتح ستة اشهر. لم يعد الناس غرباء عنه كما في السابق. وفي غضون بضعة اشهر حصل التقارب فجأة بين الشرق والغرب فذهب لملاقاة الفلاسفة الهنود، أولئك العراة الذين زعزعت حكمتهم المتأجّجة أبناء الافلاطونية. فتأقلمت تجارة الإغريق وفلسفتهم  وفنونهم على حدود وادي الغانج مع مملكة البوذيّة المسلّم بها. وباتت الفيلة والببغاوات والنمور والقردة والتماسيح من الآن فصاعدا جزءا من الحيوانات المألوفة لدى علماء الطبيعيات اليونانيين.

في نهاية ربيع 325 ق.م. نظم الاسكندر جيوشه في ثلاث فرق هائلة تمهيدا لبلوغ سوزا (شوشن) وأوكل الى نيئارك قيادة الأسطول والتقدّم نحو الغرب على طول سواحل جدروزيا. وكلّف “كراتير” السير في عالية مجرى السند لبلوغ إيران من الشمال في طليعة المشاة الثقيلة والفيلة. توغّل الاسكندر على رأس 25 ألف رجل في قبل جدروزيا عبر عربستان (دُعيت قديما سوزيان وهو إقليم خورستان) ووادي بورالي حتى بامبور. في تلك الأثناء انهمك بطليمس وليوناتس في نهب المناطق التي اجتازاها، ما زاد من أحمال قافلة الفاتح الهشّة أحمالا غير نافعة. فأخذ جيش الاسكندر الذي قاسى الإفناء والجوع والعطش في بلد الرمال المحرقة يفقد خيرة عناصره الواحد تلو الآخر. فعمد المقاتلون الجائعون الى ذبح بغالهم تاركين أمتعتهم

محلّيّا.

لم يشأ الاسكندر الذي تقدّم القوّات التي هلك القسم الأكبر منها أن يرى أو يسمع شيئا. فترك حصانه وتابع مشيا وكل همّه مشاركة مصير أبسط مرافقيه. كان يحتاج من ثماني الى عشر ساعات في اليوم لقطع خمسة عشر كيلومترا كأقصى حدّ. يجب تصوّر حالة ضيق الملك في قلب المناطق القاحلة لما هو باكستان اليوم. لقد باتت المساواة في الألم مترعة بالصعوبات بدلا من أن تكون مؤاسية. فقد رفض الاسكندر ذات اليوم الماء الذي أحضره اليه بعض الجنود المشاة وكان كمّية قليلة جمعت بكدّ وأحضرت في خوذة. وهو بعد أن شكرهم سكبها على الأرض كما لوكان يضحّي بها لجيشه.

رائعة هي الواقعة. يبقى أننا في صدد جحيم استغرق شهرين وكلّف عشرة ألاف قتيل للفاتح الذي بلغ أبواب بلاد ما بين النهرين على رأس طابور من الأشباح أواخر عام 325 ق.م. في كرمان الذي اتّخذ منها مقرّه الشتوي بكى الاسكندر فرحا لرؤيته من جديد نيئارك المخلص الذي نجح في ربط مصبّ السند ومدخل الخليج الفارسي العربي بالأسطول الإغريقي – المقدوني, في أعقاب 1300 كلم. من الملاحة، كانت الإحتفالات رائعة في المدينة الصغيرة التي ستصبح اسكندرية كرمان. هنا طلب ملك مقدونيا الذي يريد فتح طريق تجاريّ بين الهند وبلاد الرافدين من “نيئارك” أن يستأنف طريقه البحري على طول السواحل وصولا الى سوزا. أمّا هو فأخذ على نفسه التوجه نحو الشمال الغربي ناحية كرمان حيث ينضم اليه كراتير. لكن أخبار المناطق الشمالية ليست طيّبة: اغتيال حكّام فارسيين وشعوب متمرّدة. فعلاوة على الأسياد الذين أطيح بهم ثمّة اغريقيون اقتطعوا ممالك داخل أمبراطورية الاسكندر. وفي بابل يعيش هاربال كطاغية محاطا بحاشية متروكة لأهوائها. وهناك أمين صندوق جيوش الاسكندر صديق طفولته الذي كان دوما موضع ثقته.

غير أن حساباته هي جدّ ضبابيّة كي تعرض على الملك. في شباط 324 ق.م. رأى

الاسكندر قوّاته المتجمّعة  تدخل سوزا. كان عمره 31 سنة. ولم يتخلّ عن مشروعه الكبير في التزاوج بين الشرق والغرب. فقد شاء في العاصمة القديمة للامبراطورية الفارسية أن يجعل من هذا المشروع مأثرة عظيمة ترسّخ وحدة الأعراق اليونانية – المقدونية والفارسية. ولمّا كان أميرا متعدّد الزوجات على الطريقة الأخمينية فقد عقد قرانه على ستاتيرا، الفتاة التي رفض داريوس الثالث منذ عهد قريب أن يعطيه يدها، وباريساتِس، ابنة أرتحششتا الثالث. في الوقت ذاته اقترن هافايستُس بدريبتِس، أخت ستاتيرا الصغرى، وكراتير بأماسترين، إبنة أوزيارتس، وبرديكاس بابنة مرزبان (حاكم) ميديا. ثمانون جنرالا من جيش الاسكندر اقترنوا بنساء من النسب الفارسيّ. كما أقيمت حفلة عُرس مَهيبة عقد خلالها قران عشرة آلاف جندي مقدوني شرعيّا على فتيات آسيويات (بعد أن كان زواجهم غير شرعي).

من يخطر في باله أن حياته ستنتهي بعد خمسة عشر شهرا؟

شكّلت روعة أعراس سوزا واحدا من ابرز فصول حكم الاسكندر. ونظّم سير الإحتفالات شارس الميتيليني. فقد أقيمت مأدبة ضخمة تحت خيمةز وتلقّى الأزواج الجدد هديّة من يدي الملك. عقود القران صارمة. لن يسمح لأيّ من الأطفال الذين ولدوا من علاقات خارج الزواج بمغادرة آسيا. وستتأمّن تربيتهم من أموال تقتطع من الخزينة الملكية. وقدَ رأولئك الخُلاسيّين ان يصبحوا في المستقبل مقاتلين في صفوف أكبر جيش في العالم.

كان عزاء الاسكندر عندما أوقف زحفه نحو الشرق التفكير بأنه ما زالت أمامه عوالم يجب إخضاعها. علماء الجغرافيا المرافقون له فضوليون، ونزوعه جشع. فالحدود الشمالية التي عيّنها لامبراطوريته لا تفصح له عن الثروات الكامنة في بوادي سنتيا. في الجنوب يواصل نيئارك ارتياد سواحل الجزيرة العربية الخفيّة. وفي الغرب يحلم الاسكندر في الاستيلاء على قرطاجة والوصول الى أعمدة هرقل ثم العودة الى المشرق بعد ان يكون اخضع صقلية ودخل روما، المدينة التي باتت على كل شفة ولسان. أمّا مشروعه في الملكية العامة فقد بقي على حاله: إخضاع كل ما هو قائم على الأرض لكلمة واحدة في دولة واحدة واختزال كل البشر في شعب واحد. غير انه لا يفكر في دخول بيلا. إذ ان مركز ثقل امبراطوريته واقع في مكان آخر. بلاطه وحكومته ستقامان في بلاد فارس القديمة، في سوزا وأوشيس، شمال شرق بابل. وسيكون المحاربون المقدونيون القدامى الذين لا يفهمونه أحرارا في العودة الى ديارهم. فلقد بادر الاسكندر الى ابدالهم داخل وحدات المشاة بورثته من الفرس.

في تلك اللّحظات هل يخطر في بال احد انه لم يبق امامه على هذه الأرض سوي خمسة عشر شهرا ونيف؟ لقد استعاد الغازي بعض قواه وأصلح الأمور في فتوحاته وأوثق عرى الصداقة مع الأرستقراطية الفارسية. وباتت من الماضي البعيد “مجالس” الجنود المنتفضين الذين اضطرّ لمواجهتهم على ضفاف الأهواز. وتمّ مجدّدا تصفية الضباط الذين تجرّأوا على الإختلاف معه. واسؤنفت الحملات العسكرية.

معظم القوّات المرابطة على ضفاف دجلة زحفت على أكبتانا (همدان) عاصمة ميديا التي وصل اليها الاسكندر في آب 324 ق.م. بدعم من هيفايستس. فعادت الإضطرابات الى المقاطعات الشرقية. لكن هيفايستس، صديقه الحميم والوحيد ووكيله الذي عيّن أخيرا صدرا أعظم لقي حتفه فجأة بسبب إسرافه في الأكل والشرب. كان ألم الملك المقدوني الذي انحنى فوق جثمان صديقه شديدا. فأعلن الجداد في كل الامبراطورية وطلب بأن يقصّ شعره إكراما للفقيد.

أقيم لهيفايستس مأتم عظيم في بابل. إلاّ أن حزن الاسكندر لم ينته  عند هذا الحدّ. فحين جاء الشتاء خاض معارك في جبال الكش وأخضع الشعوب التمرّدة، فاقدا الحسّ بالثلج والصقيع. وعاد في الربيع الى بابل يستشير وسطاء الوحي ويتلقّى رسائل ويستقبل وفودا ويُعدّ لحملاته المقبلة. فالجيش على أهبة الإستعداد وسلسلة مآدب متوالية تعلن سفره المقبل.

لكن ذلك لن يحصل ابدا. ففي الأيام الأولى من حزيران نام الاسكندر، ضحيّة حمّى شديدة. فتحرّك أطباؤه ووصفوا له حمّامات مثلجة. إلاّ أن الفاتح الذي غالبا ما أصيب بجروح واستهلك جسده من عناء الحياة وكثرة المعارك والمسيرات الطويلة وجلسات السكر لن يصمد أمام نوبة التيفوئيد تلك.

لقد مات الاسكندر المقدوني الثالث الكبير الملقّب بذي القرنين في 13 حزيران 323 عن 32 عاما وثمانية أشهر في السنة الثالثة عشرة من عهده.

 

 

عن ucip_Admin