شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | أخبار الكنيسة | الغضب المقدّس بقلم الأب الدكتور مروان عازار
الغضب المقدّس بقلم الأب الدكتور مروان عازار
صلاة

الغضب المقدّس بقلم الأب الدكتور مروان عازار

يتردّدُ في كلّ آنٍ صدى صرخة المسيح على الصليب : “الهي الهي لماذا تركتني؟”
وكأنّ كُلَّ متألّمٍ وموجوعٍ يعانقُ بوحدته وعمق معاناته، يسوع المرفوع على الصليبِ باسم الله وباسم الشريعة والشرع.
أوليسَ هذا تحديداً ما يحدث اليوم في شرقنا؟
أوليس باسم الله وباسم الشريعة والشرع نُجَرُّ الى المحاكم ونُقتل ونُنحرُ وتُحَزُّ رقابُنا ونُذبح ونقدّم قرباناً على مذابح الكفر والضلال؟
أوليس باسم الله وباسم  الشريعة والشرع نُهَجَّر من أراضينا وبيوتنا وأشغالنا ونتركُ جنى عمرنا بغفلةِ عين؟
أوليس باسم الله وباسم الشريعة والشرع نُحرَمُ ماءً وغذاءً ودواء؟
أوليس باسم الله وباسم الشريعة والشرع يُقتل أبناؤنا وبناتنا وآباؤنا وأمّهاتنا وإخوتنا وأخواتنا وأقاربنا وأصدقاؤنا؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه يُعدَم حتّى أطفالٌ رُضَّع؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه يُحلّلُ دَمُ كلّ انسانٍ مختلفٍ، دَمُ الآخر، أيّاً كان هذا الآخر، فقط لأنّه آخر؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه يُحرَّمُ الإختلاف والتنوّع؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه غدا قطع الأعناق والأعضاء والتهام الأكباد لغةً مباركة؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه يُمنعُ كلُّ تقدّم وتطوّر وخلقٍ وإبداع؟
مَن هو هذا الإله الذي باسمه يُمقتُ الجمال ويُشَوّه الخلق؟ مَن هو هذا الإله الذي به تبشّرونا ؟
بمن وبماذا تبشّروننا أنتم الذين تدّعون الإسلام وتشوّهونه؟
بمن وبماذا تبشّروننا أنتم الذين تجرحون الإسلام الحقيقيّ وتنسفونه؟
بمن وبماذا تبشّروننا أنتم الذين على هواكم تفسّرون القرآن الكريم وتحرّفونه؟
بأيِّ إلهٍ تبشّروننا إذاً، بأيِّ عصرٍ، بأيِّ مستقبل؟ بأيّةِ حياةٍ، بأيِّ يومٍ، بأيِّ لونٍ، بأيِّ دين؟
بماذا تبشّروننا، باسم هذا الإله ذاته، أنتم الذين محوتم هويّتنا وأخفيتم أسماءنا خلف أحرفٍ أصبحت عناوين؟
هذا الإله الذي تبشّروننا به وباسمه تقتلون من وما تقتلون، وتذبحون من وما تذبحون، وتقطعون من وما تقطعون، وتغتصبون من وما تغتصبون، وتبيعون من وما تبيعون، وتستعبدون من وما تستعبدون، وتعذّبون من وما تعذبون، وتسرقون من وما تسرقون، وتنهبون من وما تنهبون، وتحطمون من وما تحطمون، وتشوّهون من وما تشوّهون، وتفجرون من وما تفجرون، وتصلبون من وما تصلبون…
هذا الإله الذين تبشّروننا به أولستم أنتم الذين خلقتموه؟
نعم من دون شكّ، أنتم ومَن وراءكم ومن وظّفكم ومن استعملكم و”خلقكم”، خلقتموه وعبدتموه، أكنتم تسلّمون بذلك أو لا تسلّمون.
وبما أنّكم أنتم خلقتموه وعبدتموه من أجل غاياتٍ وسياساتٍ قد تعلمون بها وقد لا تعلمون، فهذا يعني أنّكم أنتم ذاتكم، بشكلٍ أو بآخر، لا تعبدون إلا أصنام ذواتكم، أكنتم تقبلون بذلك أو لا تقبلون.
أوليس أخطر ما يكون هو أن نلبس نحن ثياب الله ونقول إننّا نحن الله ونعبد أنفسنا ونحلل ما نحلل ونحرّم ما نحرّم؟
أوليس أخطر ما يكون هو أن نُلبس الشيطان ثياب الله ونقول انّه هو الله وأمامه نسجد وإيّاه نعبد وبه نستعين؟
قد يكون الأمر سيّان في الحالتين.

“الهي الهي لماذا تركتني؟”
وحده يسوع عاش هذا الألم اللامتناهي، بين أرضٍ وسماء؛ وحده يسوع خبر هذا البعد اللامتناهي بين أرض وسماء؛
وحده يسوع، علّمنا أنَّ للألمِ بعداً خلاصيّاً، بين أرضٍ وسماء؛ وحده حمل آلامنا وخطايانا ورفعها الى الله الآب من على صليبه وهو يعيش ما يعيشه، بين أرضٍ وسماء؛ وحده علّمنا الغفران في حياته حتى آخر نفسٍ عندما أسلم روحه إلى أبيه، بين أرضٍ وسماء؛
وحده يسوع أقوى من الموت هو الذي غلب الموت بالموت بين أرضٍ سماء. حمل الأرض الى السماء هو الذي علّمنا انّه بالحبّ،هي الأرض تغدو سماء.
لذلك نحنُ لا ننتظر السماء لنعيش السماء. من هنا تبدأ سماؤنا. هنا البداية وهناك الكمال.
لذلك  سنحبّكم مهما أبغضتمونا؛ سنغفر لكم مهما عذّبتمونا؛ سنسامحكم مهما أذيتمونا؛ سنصلّي من أجلكم مهما قتلتمونا؛ كيف نفعل ذلك؟ أمعقول ما أقول؟ أوليس هذا نوعاً من الجنون؟ نعم، أعتقد أنّه الجنون بعينه.
لكن، ألسنا بحاجةٍ إلى جنون حبٍّ في وجه جنون الكراهية؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون غفرانٍ في وجه جنون العنف؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون صدقٍ في وجه جنون الكذب؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون رجاءٍ في وجه جنون اللارجاء؟ ألسنا بحاجةٍ إلى جنون سلامٍ في وجه جنون الحرب؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون حريّة في وجه جنون العبوديّة؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون جمال في وجه جنون القبح؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون حياةٍ في وجه جنون الموت؟
ألسنا بحاجةٍ إلى جنون إلهٍ رحمن رحيم في وجه جنون صنمٍ لا يعرف معنى الحنان والرحمة؟
أوليس الجنون وحده يكسر الجنون؟ بالتأكيد!
أهذا يعني أننا متطرّفون؟ نعم، نحن متطرّفون، مثلكم متطرّفون. لكنّ اتجاهنا معاكسٌ تماماً لاتجاهكم.
إن تطرّفنا فتطرّفنا جنون حياة للحياة بكلّ أشكالها لأنّنا مسكونون بالحياة، أمّا تطرّفكم فجنون موت للموت بكلِّ أشكاله، لأنّكم مسكونون بالموت.
في هذا الإطار قد يصحّ السؤال: إذا كنّا مجانين ومتطرّفين، فهل نحن أيضاً كما تتهمونا كافرون؟
إن كنّا مجانين ومتطرّفين فنعم نحن أيضاً كافرون. كفرنا بالغدر، بالخبث، بالكذب؛ كفرنا بالتمييز، بالظلم، بالعبوديّة؛ كفرنا بالتزلّفِ، بالتعسّفِ، بالفوضى؛ كفرنا بالقتلِ، بالذبحِ وبكلِّ أشكال العنف؛ كفرنا بالشرِّ، بالأصنامِ، بالشيطان. كفرنا بكلِّ ما يؤذي الإنسان والأرض والطبيعة والكون.
كفرنا بهذا الإله الذي تبشّروننا به، وآمنّا بالإله الحقّ، الإله الرحمن الرحيم، إله الحبّ والخير والجمال، الربّ الرؤوف والسيّد الرحوم؛ آمنّا بالحياة، بالفرح، بالحريّة؛ آمنّا بالإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله؛ آمنّا، أنّ الله دعانا إلى مشاركته في الخلق، دعانا أن نكون خلاّقين مثله ومبدعين، عشّاق جمال وفنّ وحياة؛ آمنّا أنّ الله القدّوس يريدنا، رغم كلّ ضعفنا، أن نكون على مثاله قدّيسين.
إذاً جنوننا غير جنونكم، وتطرّفنا غير تطرّفكم، وكفرنا غير إيمانكم.

“الهي الهي لماذا تركتني؟”
قال المسيح على الصليب، وها نحن لا ننفكّ نردّد معه تلك الكلمة منذ موته وقيامته الى الآن، غير أنّه هو عاش وحده ما عاشه، أمّا نحن فنعيش آلامنا ونحن متّحدون به، لذلك لا ننفكّ نردّد عند كلّ مفرقِ طرقٍ: “مع آلامك يا يسوع”.
نعم، “مع آلامك” التي تزداد كلّ يومٍ أكثر.
“مع آلامك” التي تعانق آلامنا.
“مع آلامك” أنت الذي يختصر بوجهه المتألّم كلّ الوجوه وكلّ ألم؛
“مع آلامك” أنت الذي شُتمت وجُوّعت وضُربت ولُطمت وحُمّلت صليباً وصلبت ورغم كلّ شيء غفرت؛
“مع آلامك” ونحن نمات النهار كلّه، ونحن نساقُ للذبح سوق الغنم؛
“مع آلامك” ونحن نضطهدُ منذ تجسّدك إلى الآن من أجل اسمك؛
“مع آلامك” ونحن نرفع اليك الشرق ولبنان وكلّ الذين يؤذوننا مع عطر صلاتنا؛
“مع آلامك” ونحن نحمل رسالة محبّة وايمانٍ ورجاء رغم كلّ الألم؛
“مع آلامك” ونحن نغفر كما غفرت لكلّ الذين صلبونا كلّ أنواع الصلب؛
“مع آلامك”، أنت الذي تعرف وحدك عمق آلامنا.

“الهي الهي لماذا تركتني؟”
وحدك يا يسوع عشت تلك اللحظة الرهيبة. وحدك عشتها وأنت ترى الذين علّمتهم وباركتهم وشفيتهم يصلبونك باسم دينٍ وعدالة لا يعرفان لا الإله الحقيقيّ ولا العدالة الحقّة.
مثلك يا يسوع نحن نصلب اليوم أيضاً باسم دينٍ لا دين له سوى الجنس والقتل والإرهاب؛ ونُصلبُ  أيضاً على مثالك باسم عدالة ظالمة.
فلمن الشكايةُ ونحنُ نُصلبُ كلَّ يومٍ مع كلِّ “الآخرين” فقط لأنّنا “آخرون”، لأنّنا مختلفون، مسلمين كنّا أو مسيحيّين؟
لمن الشكاية ونحن نعيشُ جلجلةً وكربلاء دون انقطاع؟
لمن الشكاية والسياسات والمصالح تريدُ منذ زمنٍ إفراغ شرقنا من مسيحيّيه ومن كلّ مَن ليس هو داعشيّ؟
لمن الشكاية والدول بصمتها تشجّع وتدعم وتغطّي كلّ المجازر والمذابح والتهجير بحقّ المسيحيين  وغير المسيحيين في سوريا ومصر والعراق والعديدِ من الدول؟
لمن الشكايةُ والعالم القريب والبعيد يتفرّجُ بشبه صمت على مسيحيي الموصل وسهل نينوى، همالذينبين ليلةٍ وضحاها من  أرض أجدادهم قد طردوا؟
لمن الشكاية ولم تجفّ بعد دماء الأرمن والسريان والأقباط في هذا الشرق المتألّم؟
لمن الشكاية ولا زالت تستصرخنا دماء الكثيرين من المسيحيين والمسلمين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم؟
لمن الشكاية حين تتآمر القوى العظمى لتهجيرنا وتفتح في الوقت عينه أبواب بلدانها لاستقبالنا؟
لمن الشكاية عند جور حكّامِ العالم على أناس مشرقنا المسالمين، مسلمين كانوا أو مسيحيّين، أيزيديين كانوا أو شبك أو صابئة، أقليّة كانوا أو غير أقليّة؟
لمن الشكاية ومعظم كلامهم لا يتعدّى حدود الاستنكار العقيم؟
لمن الشكاية وقضاؤهم تعسُّف؟
لمن الشكاية ولا سبيل الى الحياة كريمةً، فهل مَن يُنصِفُ؟
لمن الشكاية وكلّما رفعنا حقوق الإنسان لواءً تآمرواوتأفّفوا؟
لمن الشكاية وكلما عضضنا على الجراح تحرّجاً في الانسانيّة والدين يقولون: “قد استضعفوا”؟
لمن الشكاية وكلما بشّرنا بحريّة الإيمان والمعتقد يصرخون: “قد جدّفوا”؟
لمن الشكاية “والعدلُ ظلمٌ والحياةُ صفاقةٌ والحبّ ذحلٌ والضميرُ مزيّفُ”(1)؟
لمن الشكاية وقد “تنصّل الوجدان من سلطانه، وتبرّأ الإنجيل ثمّ المصحفُ”(2)؟
لمن الشكاية إلاّ إليك أيّها الربّ يسوع، أنت الذي جار الطغاة عليك و”أمعنوا في غيّهم وتبجّحوا وتغطرفوا”(3)؟

“الهي الهي لماذا تركتني؟”
قلتها يا يسوع وأنت مصلوبٌ بين لصّين، أنت الذي أتيت لتعلّمنا طريق الحقّ والحياة لأنّك الطريق والحقّ  والحياة؛ أنت الذي أتيت لترفع معك انسانيّتنا الى السماء.
نحن المسيحيّين نؤمن انّ الله ذاته يحمل بجوهره الآخر. هو بجوهره آبٌ وابنٌ وروح. وبتجسّد الابن غدت  الانسانيّة ذاتها في قلبِ الله.
فكيفَ لنا نحن المؤمنون بك أيّها الإله الواحد الحقّ وأنتبجوهرك أقانيم ثلاثة، أن نرفض الآخر، أخانا وأختنا في الإنسانيّة، مهما كان هذا الآخر وأيّاً كان، هو الذي فديته أنت أيّها الربّ بدمك؟
إن رفضنا الآخر، لأنّه مختلفٌ عنّا، لأنّ رأيه ليس كرأينا أو لأنّ فكره ليس كفكرنا،أو لأنّ لونه ليس كلوننا، أو لأنّ لغته ليست كلغتنا، أو لأنّ صوته ليس كصوتنا، أو لأنّ شخصيّته ليست كشخصيّتنا أو لأنّ قامته ليست كقامتنا، أو لأنّ إيمانه ليس كإيماننا، أو لأنّ دينه ليس كديننا، أو مهما كانت حججنا، وقعنا شئنا أم أبينا في فخِّ الداعشيّة ومشتقّاتها، وأضحينا داعشيّين، مرائين، غلاظ الرقاب، قساة القلوب، عبّاد أصنامٍ وكاذبين.

“الهي الهي لماذا تركتني؟”
قلتها يا يسوع، أنت الابن الحبيب الذي عنك الآب ارتضى، أنت الذي تنادي الآب “أبّا”، أنت الذي عشت القرب اللامتناهي مع الآب، واختبرتالبعد اللامتناهي على الصليب… ألماً لا يوصف.
نحن أيضاً يا يسوع، نصرخ إليك في خضمِّ البُعدِ عن الله والإنسان الذي تعيشه منطقتنا، ونحن متّحدون بكَ.
نصرخ إليك ونحن نتأمّل تعاليمك وحياتكَ. نصرخ إليك ونطلب منك أن تساعدنا لنجعل من وطننا هيكلاً، فلا  نسمح للطغاة أن يحوّلوه الى مغارةٍ للصوص. نعم، علّمنا ألاّ نخاف.
علّمنا أن نبقى وندافع عن أرضنا، عن وطننا-الرسالة، عن وطننا-الهيكك، عن لبناننا المزيّن بكلّ أبنائه المسلمين والمسيحيّين.
علّمنا أن نحمي معاً كلّ كنيسة وديرٍ وجامعٍ وحسينيّة لتبقى أجراسنا صادحةً ومآذننا عالية.
علّمنا أن نحمل الرسالة والشهادة بحياتنا، وإذا غضبنا، علّمنا أيضاً أن يكون غضبنا تماماً مثل غضبك عندما بالسوط أخرجت الباعة من الهيكل؛ عندما استعملت السوط حيث لم تنفع الكلمة…
علّمنا أن يكون غضبنا مقدّساً تماماً مثل غضبك.

(1) الأب مارون كرم، منبر شعر، الكسليك، لبنان، صفحة 126.
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه.

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).