شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | أخبار الكنيسة | البابا يصدر إرادة رسولية ينشئ بموجها “أحد كلمة الله”
البابا يصدر إرادة رسولية ينشئ بموجها “أحد كلمة الله”
رسالة البابا فرنسيس بمناسبة تطويب شهداء الجزائر

البابا يصدر إرادة رسولية ينشئ بموجها “أحد كلمة الله”

أصدر البابا فرنسيس رسالة بابوية في شكل إرادة رسولية بعنوان “فتح أذهانهم” أنشأ بموجبها “أحد كلمة الله”

 أصدر البابا فرنسيس رسالة بابوية في شكل إرادة رسولية بعنوان “فتح أذهانهم” أنشأ بموجبها “أحد كلمة الله” هذا نصها:

1-      “فَتحَ أَذْهانَهم لِيَفهَموا الكُتُب” (لو 24، 45): هذا مِن آخر الأعمال التي قام بها الربّ القائم من الموت قبل صعوده. ظهر للتلاميذ فيما كانوا مجتمعين، وكسر الخبز معهم وفتح أذهانهم ليفهموا الكتب. فكشف لهؤلاء الرجال الخائفين والمحبطين، عن معنى السرّ الفصحيّ: أي أنّه، وفقًا للتدبير الأبدي للآب، كان على يسوع أن يتألّم ويقوم من بين الأموات، كي يمنح التوبة وغفران الخطايا (را. لو 24، 26. 46- 47)؛ ثمّ وعدهم بالروح القدس الذي سوف يمنحهم القوّة ليكونوا شهودًا لسرّ الخلاص هذا (را. لو 24، 49).

إن العلاقة بين القائم من الموت، وجماعة المؤمنين والكتاب المقدّس هي أساسيّة للغاية بالنسبة لهويّتنا. بدون مساعدة الربّ لنا، من المستحيل أن نفهم الكتاب المقدّس بعمق، ولكن العكس صحيح أيضًا: بدون الكتاب المقدّس، تظلّ أحداث رسالة يسوع وكنيسته في العالم غير مفهومة. وقد كتب القدّيس جيروم بحقّ: “أن نجهل الكتاب المقدّس هو أن نجهل المسيح” (حول أشعيا، المقدّمة: الآباء اللاتين 24، 17).

2-       طلبتُ في ختام اليوبيل الاستثنائي للرحمة، التعمّقَ في فكرة “تخصيص يوم أحد كامل لكلمة الله، كي نفهم الغنى الذي لا ينضب، والنابع من هذا الحوار المتواصل الذي يقيمه الله مع شعبه” (الرسالة الرسولية رحمة وبائسة، 7). إن تخصيص يوم أحد على وجه الخصوص من السنة الليتورجية لكلمة الله يسمح لنا، قبل كلّ شيء، أن نسمح للكنيسة بأن تعيش مجدّدًا عمل القائم من الموت الذي يفتح لنا أيضًا كنز كلمته حتى نتمكّن من أن نبشّر في العالم بهذا الغنى الذي لا ينضب. وتعود إلى الذهن، في هذا الصدد، تعاليم القدّيس افرام: “من يستطيع أن يفهم، يا ربّ، كلّ غنى كلماتك؟ فما يفوق فهمنا هو أكثر بكثير مما يمكننا فهمه. إننا مثل العِطاش الذين يرتوون من النبع. لكلمتك جوانب عديدة مختلفة، وعديدة هي وجهات نظر الذين يدرسونها. فقد لوّن الربّ كلمتَه بجمالٍ متنوّع، حتى يستطيع الذين يتفحّصونها التأمّل بما يفضّلونه. وقد أخفى في كلمته كلّ الكنوز، حتى يجد كلّ واحد منّا كنزًا في ما يتأمّله” (تعليقات حول الإنجيل الرباعي، 1، 18).

اعتزم، عبر هذه الرسالة، الاستجابة لطلباتٍ عديدةٍ ورَدَت إليّ من شعب الله، حتى نتمكّن في الكنيسة بأسرها من الاحتفال بيوم أحد كلمة الله وهدفُنا واحد. لقد أصبح من الشائع الآن أن نعيش لحظاتٍ تركّز فيها الجماعةُ المسيحيّة على القيمة الكبيرة التي تحتلّها كلمةُ الله في حياتها اليوميّة. هناك مجموعة كبيرة من المبادرات، في العديد من الكنائس المحلّية، التي تجعل الكتاب المقدّس في متناول المؤمنين أكثر فأكثر، ممّا يجعلهم يشعرون بالامتنان لمثل هذه الهبة العظيمة، ملتزمون بعيشها بشكل يوميّ ومسؤولون عن الشهادة لها بانسجام.

لقد أعطى المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني دفعًا كبيرًا لإعادة اكتشاف كلمة الله من خلال الدستور العقائدي كلمة الله. وتظهر بوضوح من خلال تلك الصفحات، التي تستحقّ دائمًا التأمّل والعيش، طبيعةُ الكتاب المقدّس، وكيف انتقلَ من جيل إلى جيل (الفصل الثاني)، ومصدر إلهامه الإلهيّ (الفصل الثالث)، الذي يعانق العهدين القديم والجديد (الفصلان الرابع والخامس)، وأهمّيته بالنسبة لحياة الكنيسة (الفصل السادس). وبهدف توسيع هذا التعليم، دعا بندكتس السادس عشر في عام 2008 إلى انعقاد سينودس الأساقفة حول موضوع “كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها”، ونشر بعد ذلك الإرشاد الرسولي كلمة الربّ، الذي يشكّل تعليمًا لا بدّ منه لجماعاتنا . وقد تمّ التعمّق في هذه الوثيقة، على وجه الخصوص، بالطابع الأدائي لكلمة الله، ولا سيّما عندما يظهر أثناء الليتورجيا طابعها الأسراري .

من الجيّد، بالتالي، ألّا تفتقر حياة شعبنا أبدًا إلى هذه العلاقة الحاسمة مع الكلمة الحيّة التي لا يكلّ الربّ أبدًا من توجيهها إلى عروسه، حتى يتسنّى لها أن تنمو في المحبّة والشهادة للإيمان.

3-       لذا أقرّر أن يُخَصّص يوم الأحد الثالث من الزمن العادي للاحتفال بكلمة الله، والتأمّل بها، ونشرها. فيأتي يوم أحد كلمة الله هذا في وقت مناسب من تلك المرحلة من السنة، حيث نُدعى لتقوية العلاقات مع اليهود ونصلّي من أجل وحدة المسيحيّين. إنها ليست مجرّد صدفة زمنيّة: فالاحتفال بيوم أحد كلمة الله يعبّر عن قيمة مسكونيّة، لأن الكتاب المقدّس يقود الذين يصغون إليه نحو الطريق الذي يجب اتّباعه من أجل بلوغ وحدة حقيقية ومتينة.

سوف تجد الجماعات طرقًا لعيش هذا الأحد كيوم احتفاليّ. من المهمّ أيضًا أن يُكَرَّم الكتاب المقدّس أثناء الاحتفال بالقدّاس الإلهي، ممّا يُظهِر للجماعة القيمة المعياريّة التي تملكها كلمة الله. من المفيد أيضًا خلال هذا الأحد، بشكل خاص، أن يُعلَن بطريقة مميّزة وأن تُكيَّف العظة لإلقاء الضوء على الخدمة التي تُقدَّم لكلمة الربّ. باستطاعة الأساقفة في هذا الأحد، أن يحتفلوا برسامة قارئين أو أن يوكلوا خدمة مماثلة، كيما يذكّروا بأهمية إعلان كلمة الله أثناء الليتورجيا. من الضروري، في الواقع، ألّا نبخل بأيّ جهد في تحضير بعض المؤمنين ليكونوا مبشّرين حقيقيين لكلمة الله مع إعداد مناسب، كما هي العادة اليوم مع خدمة المذبح والعلمانيّين الموكلين بتوزيع القربان المقدّس. وبنفس الطريقة، سيجد كهنة الرعية طرقًا لمنح الكتاب المقدّس بكامله، أو لمنح كتاب من مجموعة كتبه، إلى الجمع بأكمله من أجل إبراز أهمّية مواصلة قراءة الكتاب المقدّس والتعمّق به والصلاة في الحياة اليوميّة، مع إشارة خاصّة إلى القراءة الإلهيّة (lectio divina).

4-       لقد تميّزت عودة شعب إسرائيل إلى وطنه، بعد المنفى البابلي، بقراءة سفر الناموس. ويقدّم لنا الكتاب المقدّس وصفًا مؤثرًا لتلك اللحظة في سفر نحميا. فقد اجتمع الشعب في أورشليم، في ساحة باب المياه، يصغون إلى سفر الناموس. كان ذاك الشعب قد تشتّت عند النفي، لكنه الآن مجتمعٌ حول الكتاب المقدّس كما لو كان كلّه “رجلًا واحدًا” (نح 8، 1). كانت “آذانُ كُلِّ الشَّعبِ مُصغِيَةٌ” (نح 8، 3) عند قراءة السفر المقدّس، وكان الشعب يدرك أنه يجد في تلك الكلمة، معنى الأحداث التي عاشها. أمّا ردّة الفعل على إعلان هذه الكلمة فكان التأثّر والدموع: “[اللاويين] قَرَأُوا في سِفرِ شَريعَةِ اللهِ مُتَرجمينَ وشارِحينَ المَعْنى، حتَّى فَهِموا القِراءَة. ثُمَّ إِنَّ نَحَمْيا الذي هو التَّرْشاتا، وعَزْرا الكاهِنَ الكاتِبَ، واللَّاوِيِّينَ الَّذينَ كانوا يُعَلِّمونَ الشَّعْب، قالوا لِكُلِّ الشَّعْب: «هذا يَومٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكم، فلا تَنوحوا ولا تَبْكوا». وكانَ الشَّعبُ كُلُّه يَبْكي عِندَ سَماعِه كَلِماتِ الشَّريعَة […] لا تَحزَنوا، لأِنَّ فرَحَ الرَّبِّ حِصنُكم” (8، 8- 10).

تحتوي هذه الكلمات على تعليم عظيم. ولا يمكن أن يكون الكتاب المقدّس مجرّد تراث للبعض، أم مجموعة من الكتب تخصّ قلّة متميّزة. إنه ينتمي في المقام الأوّل إلى الشعب الذي دُعي للإصغاء إليه وليجد ذاته في تلك الكلمة. غالبًا ما نجد الميل إلى احتكار النصّ المقدّس ومحاولة إحالته إلى دوائر معيّنة أو إلى مجموعات محدّدة. لا يمكن أن يكون الأمر كذلك. فالكتاب المقدّس هو كتاب شعب الربّ الذي ينتقل، عبر الإصغاء، من التشتّت والانقسام إلى الوحدة. فكلمة الله توحّد المؤمنين وتجعلهم شعبًا واحدًا.

5-       أمّا الكهنة، في هذه الوحدة التي تولد عبر الإصغاء، يتحمّلون أوّلًا المسؤولية الكبيرة لشرح الكتاب المقدّس والسماح للجميع بفهمه. ولأنه كتاب الشعب، يجب أن يشعر خدّامُ الكلمة بضرورة جعله في متناول جماعتهم.

وللعظة، على وجه الخصوص، قيمة خاصّة للغاية، لأنها تتّسم “بطابع شبه أسراريّ” (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 142). إن حَمل المؤمنين على الدخول بعمق في كلمة الله، عبر لغة بسيطة مناسبة للمستمعين، يسمح للكاهن باكتشاف “جمال الصور التي يستخدمها الربّ كي يستحثّ على ممارسة الخير” (المرجع نفسه). إنها فرصة رعويّة لا ينبغي تفويتها!

وهذه الفرصة هي الوحيدة في الواقع، لدى الكثيرين من المؤمنين كي يفهموا جمال كلمة الله ويربطوها بحياتهم اليوميّة. لذا فمن الضروري تكريس الوقت اللازم لإعداد العظة. لا يمكن ارتجال التعليق على القراءات المقدّسة. يُطلب منّا نحن الوعّاظ، الالتزام بعدم الإسهاب المبالغ بعظات متحذلقة أو مواضيع غريبة. فعندما نأخذ وقفة للتأمّل بكلمة الله وللصلاة، نستطيع التكلّم من القلب كي نَبلُغ قلوب الأشخاص الذين يصغون إلينا، ونعبّر هكذا عمّا هو أساسيّ كيما يُفهَم ويعطي ثمرًا. دعونا ألا نَكِل من تكريس الوقت للكتاب المقدّس والصلاة، كيما يُقبَلَ لا “لِكَلِمَةِ بَشَر، بل لِكَلِمَةِ اللهِ” (1 تس 2، 13).

من الجيّد أن يشعر معلّمو التعليم المسيحيّ أيضًا، بالنسبة للخدمة التي يساعدون بها على النموّ في الإيمان، بالحاجة الملحّة لتجديد أنفسهم من خلال معرفتهم للكتاب المقدّس ودراسته، والتي تمكّنهم من تعزيز حوار حقيقي بين الذين يصغون إليهم وكلمة الله.

6-  قبل أن يجتمع القائم من بين الأموات بالتلاميذ، المنغلقين في المنزل، وقبل أن يفتح أذهانهم ليفهموا الكتاب المقدّس (را. لو 24، 44- 45)، ظهر لاثنين منهم كانا في طريقهما من أورشليم إلى عمّاوس (را. لو 24، 13- 35). تشير رواية لوقا الإنجيلي إلى أن هذا قد حدث يوم القيامة نفسه، أي يوم الأحد. كان هذان التلميذان يناقشان آخر أحداث آلام وموت يسوع. وكان طريقهما مطبوعًا بالحزن وخيبة الأمل بفعل النهاية المأساويّة التي عرفها يسوع. كان رجاؤهما أن يكون المسيح هو المحرّر، وها إنهما يواجهان خزي الصليب. فاقترب، بكلّ هدوء، “القائمُ من الموت” بذاته ومشى مع التلميذين، لكن أعينهما حُجِبت عن معرفتِه (را. آية 16). وطرح الربّ عليهما الأسئلة طوال الطريق، مدركًا أنهما لم يفهما معنى آلامه وموته؛ دعاهما “قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ” (آية 25) و “بَدأَ مِن مُوسى وجَميعِ الأَنبِياء يُفَسِّرُ لَهما ما يَختَصُّ بِه في جميع الكُتُبِ” (آية 27). المسيح هو المفسّر الأوّل! لم يتنبّأ العهد القديم بما كان سينجزه وحسب، بل أراد هو نفسه أن يكون مُخْلِصًا لتلك الكلمة، كي يُظهِر بوضوح قصّة الخلاص الوحيدة التي تجد كمالها بالمسيح.

6-       يتحدّث الكتاب المقدّس، بالتالي، عن المسيح ويعلنه باعتباره الشخص الذي يجب أن “يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه” (را. آية 26). لا يتحدّث عنه جزء واحد وحسب، وإنّما كلّ الكتاب المقدّس. فلا يمكن فهم موته وقيامته بدون الكتاب المقدس. لذا فإن أحد أقدم قوانين الإيمان يؤكّد أن المسيح “ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ” (1 قور 15، 3- 5). وبما أن الكتاب المقدّس يتحدّث عن المسيح، فإنه يسمح لنا أن نؤمن بأن موته وقيامته ليست أساطير بل تاريخ، وأنّهما محور إيمان تلاميذه.

إن الرباط بين الكتاب المقدّس وإيمان المؤمنين هو عميق. وبما أن الإيمان يأتي من السماع، والسماع يقوم على كلمة المسيح (را. روم 10، 17)، فإن الدعوة التي تنبثق عنه إنما هي الضرورة والأهميّة التي على المؤمنين أن يخصّوا بها الإصغاء لكلمة الربّ سواء كان في الليتورجيا أم في الصلاة والتأمّل الشخصي.

7-        تنتهي “رحلة” القائم من بين الأموات مع تلميذي عمّاوس بعشاء. يقبل “المسافر” الغامض الطلب الملحّ الذي يوجّهه إليه الاثنان: “أُمكُثْ مَعَنا، فقد حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار” (لو 24، 29). جلسوا على الطاولة، فأخذ يسوع الخبز، وبارك، ثمّ كسره وناولهما. في تلك اللحظة، انفتحت أعينهما وعرفاه (را. آية 31).

نحن نفهم من هذا المشهد كيف أن العلاقة بين الكتاب المقدّس والافخارستيا هي وثيقة للغاية. يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني: “لقد كرّمت الكنيسة على الدوام الكتابَ المقدس كما كرّمت جَسَدَ الربّ نفسه. فإنها لم تتوقّف يومًا، ولا سيما في الليتورجيّا المقدّسة، عن استمداد غذائها من خبز الحياة، سواءً عن مائدة كلمة الله أو عن مائدة جسدِ المسيحِ، لتقدّمه للمؤمنين”(كلمة الله، 21).

عبر الحضور الدائم للكتاب المقدّس والاحتفال بالقدّاس الإلهيّ، ينشأ بين المؤمنين انتماء يجعلهم يعترفون بعضهم ببعض. إننا كمسيحيين شعب واحد يسير في التاريخ، ويستمدّ قوّته من حضور الربّ الذي يتحدّث إلينا ويغذّينا. واليوم المخصّص للكتاب المقدّس لا يريد أن يكون “مرّة واحدة في السنة”، ولكن مرّة واحدة تحضيرًا للسنة بأكملها، لأننا نحتاج بشكل عاجل لأن نتآلف مع الكتاب المقدّس ومع القائم من بين الأموات، الذي لا يتوقّف عن كسر الكلمة وكسر الخبز في جماعة المؤمنين. لذا نحن بحاجة إلى التعمّق المستمرّ بالكتاب المقدّس، لأن القلب دون ذلك يبقى باردًا والعينان مغلقتين، ونُصاب بأشكال لا تحصى من أشكال العمى.

إن الرباط بين الكتاب المقدّس والأسرار المقدّسة هو وثيق للغاية. عندما تُقدِّمُ كلمةُ الله الأسرارَ وتنيرها، تظهر بوضوح على أنها هدف لمسيرة يفتح فيها المسيح الذهنَ والقلبَ لإدراك عملها الخلاصي. من الضروري، في هذا السياق، ألّا ننسى التعليم الذي يأتي من سفر الرؤيا. يُقال فيه إن الربّ واقف عند الباب ويقرع. إذا سمع أحد صوته وفتح له، يدخل لتناول العشاء معه (را. 3، 20). إن يسوع المسيح يقرع بابنا من خلال الكتاب المقدّس؛ إذا سمعنا وفتحنا باب الذهن والقلب، يدخل حياتنا ويبقى معنا.

8-       في الرسالة الثانية إلى طيموتاوس، والتي تشكّل نوعًا ما شهادته الروحية، يوصي القدّيس بولس معاونَه المخلص بالمواظبة على التعمّق بالكتاب المقدّس. فالرسول مقتنع بأن “كُلّ ما كُتِبَ هو مِن وَحيِ الله، يُفيدُ في التَّعْليمِ والتَّفنْيدِ والتَّقْويمِ والتَّأديبِ في البِرّ” (3، 16). وتشكّل وصيّة بولس هذه إلى طيموتاوس، أساسًا يواجه من خلاله الدستورُ المجمعي كلمة الله موضوعَ إلهام الكتاب المقدّس، وأساسًا ينبثق منه لا سيما الهدف الخلاصي، والبعد الروحي ومبدأ التجسّد للكتاب المقدّس.

يشير الدستور المجمعي كلمة الله، مذكّرًا أوّلًا وقبل كلّ شيء بوصيّة بولس إلى طيموتاوس، إلى أن ” الكتبَ المقدسةَ تُعلِّمُ الحقيقة التي أراد الله أن تُدرَجَ في تلك الأسفارِ المقدّسة” (عدد 11). ولأنها تعلّم من أجل الخلاص عبر الإيمان بالمسيح (را. 2 طيم 3، 15)، فإن الحقائق الواردة فيها هي من أجل خلاصنا. فالكتاب المقدّس ليس مجموعة من كتب التاريخ، ولا من الأخبار، ولكنه مخصّص بالكامل لخلاصنا الشامل. ولا يجب أن تجعلنا الجذورُ التاريخية للكتاب، الواردة في النصّ المقدّس والتي لا يمكن إنكارها، ننسى هذا الهدف الأساسي: خلاصنا. فكلّ شيء يهدف إلى هذا الخلاص المُدرَج في طبيعة الكتاب المقدّس الذي وُضِعَ كتاريخ خلاصٍ يتحدّث فيه الله ويعمل، كي يذهب للقاء جميع البشر ويخلّصهم من الشرّ والموت.

ولتحقيق هذا الهدف الخلاصيّ، يحوّل الكتابُ المقدّس بفعل الروح القدس، كلمةَ الإنسان المكتوبة بطريقة بشريّة إلى كلمة الله (را. كلمة الله، 12). فدور الروح القدس في الكتاب المقدّس هو أساسيّ. وبدون عمله، فإن خطر الانغلاق على النصّ المكتوب وحسب يبقى حاضرًا، ويسهّل التفسير الأصوليّ، الذي يجب أن نبتعد عنه باستمرار حتى لا نخون البعد الإلهاميّ، والديناميكيّ، والروحيّ، الذي يملكه النصّ المقدّس. كما يذكّر به الرسول، “الحَرْفَ يُميتُ والرُّوحَ يُحْيي” (2 قور 3، 6). إن الروح القدس، بالتالي، يحوّل الكتاب المقدّس إلى كلمة الله الحيّة، كلمة يعيشها شعبه المقدّس وينقلها بإيمان.

10- لا يقتصر عمل الروح القدس على تكوين الكتاب المقدّس، ولكنه يعمل أيضًا في الذين يصغون إلى كلمة الله. ومهمٌّ هو تأكيد آباء المجمع أنه “يَجبُ قراءةُ الكتابِ المقدّس وتفسيرُه بذاتِ الروح الذي فيهِ كُتِبَ” (كلمة الله، 12). ومع يسوع المسيح، يصل كشفُ الله عن ذاته إلى قمّته وكماله؛ وبعد فالروح القدس يواصل عمله. ويكون من الاختزال في الواقع، اقتصار عمل الروح القدس على الطبيعة الإلهيّة للكتاب المقدّس وعلى مختلف كتّابه. لذلك، من الضروريّ أن نكون على يقين من عمل الروح القدس الذي ما زال يُلهِم بطريقته الخاصّة عندما تُعلِّم الكنيسة الكتاب المقدّس، وعندما تفسّره الكنيسة بشكل أصيل (را. نفس المرجع، 10) وعندما يتّخذه كلّ مؤمن شخصيًّا كقاعدة روحيّة. وبهذا المعنى، يمكننا أن نفهم كلمات يسوع عندما يقول للتلاميذ الذين يؤكّدون أنهم قد فهموا معنى أمثاله: “كُلُّ كاتِبٍ تَتَلمَذَ لِمَلكوتِ السَّمَوات يُشبِهُ رَبَّ بَيتٍ يُخرِجُ مِن كَنزِه كُلَّ جَديدٍ وقَديم” (متى 13، 52).

11- أخيرًا، يذكّر الدستور كلمة الله بأن “كلامَ الله الذي عُبِّرَ عنه بلغةِ البشرِ صارَ شبيهًا بالكلامِ البشريّ كما فيما مضى من الأزمنة صارَ كلمةُ الله الأزلي شبيهًا بالبشرِ بعد أن أَخَذَ جَسَدَ ضعفنا البشري” (عدد 13). وكأنه يقول إن تجسّد كلمة الله يعطي شكلًا ومعنى للعلاقة بين كلمة الله واللغة البشريّة، بظروفها التاريخيّة والثقافية. وبهذا الحدث بالتحديد، ينشأ التقليدُ المقدّس، الذي هو أيضًا كلمة الله (را. نفس المرجع، 9). غالبًا ما نكاد نفصل الكتاب المقدّس عن التقليد المقدّس، دون أن نفهم أنّهما يشكّلان معًا المصدر الوحيد للوحي الإلهيّ. أمّا كون الكتاب المقدّس قد وُضِعَ كتابيًّا فلا يؤثّر على كونه كلمة حيّة بالملء؛ كما وأن التقليد الحيّ للكنيسة، الذي ينقل هذه الكلمة باستمرار على مرّ القرون من جيل إلى جيل، قد اتّخذ لذاته الكتاب المقدّس “قاعدةً مُطلقةً لإيمانها” (نفس المرجع، 21). علاوة على ذلك، فالكتاب المقدّس، قبل أن يصبح نصًّا مكتوبًا، نُقِل شفهيًّا وبقي حيًّا بفضل إيمان شعب كان يقرّ به تاريخًا له ومبدأ لهويّته وسط العديد من الشعوب الأخرى. لذا فإن إيماننا يقوم على الكلمة الحيّة، وليس على كتاب.

  1. عندما يُقرأ الكتاب المقدّس بذات الروح الذي به كُتب، يبقى جديدًا على الدوام. فالعهد القديم ليس قديمًا أبدًا بمجرّد أنه جزء من العهد الجديد، لأن الروح القدس الأوحد الذي يُلهم كلّ شيء هو الذي يحوّل كلّ شيء. وللنصّ المقدّس بأكمله وظيفة نبويّة: وهذه الوظيفة لا تتعلّق بالمستقبل، إنما بحاضر الذين يتغذّون من هذه الكلمة. ويؤكّد يسوع نفسه هذا بوضوح في بداية خدمته: “اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم” (لو 4، 21). كلّ من يتغذّى من كلمة الله يوميًّا يصبح، مثل يسوع، معاصرًا للأشخاص الذين يقابلهم؛ لا يعرف خطر الوقوع في حنين عقيم للماضي، ولا في يوتوبيا مستقبليّة، لا قوام لها في الواقع.

يتمّم الكتابُ المقدّس عمله النبويّ أوّلًا مع الذين يصغون إليه؛ فيسبّب الحلاوة والمرارة. تعود إلى الذهن كلمات النبيّ حزقيال عندما سأله الربّ أن يأكل السفر، وقال: “صارَ في فَمي كالعَسَلِ حَلاوة” (3، 3). وقد عاش الإنجيليّ يوحنا في جزيرة بطمس نفس تجربة أكل حزقيال للكتاب، لكنّه يضيف شيئًا أكثر تحديدًا: “كانَ في فَمي حُلوًا كالعَسَل ولَمَّا أَكَلتُه مَلأَ جَوفي مَرارةً” (رؤيا 10، 10).

إن حلاوة كلمة الله تحثّنا على مشاركتها مع الذين نلتقي بهم في حياتنا، كي نعبّر عن يقين الرجاء الذي تحتويه (را. 1 بط 3، 15- 16). أمّا المرارة، فغالبًا ما تسبّبها صعوبة عيش الكلمة بشكل متناسق، أو رفضها لأنها تُعتبر غير صالحة لإعطاء معنى للحياة. لذا فمن الضروريّ ألّا نعتاد أبدًا على كلمة الله، إنما أن نتغذّى منها كي نكتشف ونعيش بعمق علاقتنا مع الله ومع إخوتنا.

13- هناك تحدّ آخر يأتي من الكتاب المقدّس ويتعلّق بالمحبّة. تذكّرنا كلمة الله باستمرار بمحبّة الآب الرحيم الذي يطلب من أبنائه أن يعيشوا بالمحبّة. وحياة يسوع هي التعبير الكامل عن هذه المحبّة الإلهيّة التي لا تحتفظ بشيء لنفسها، إنما تقدّم ذاتها للجميع دون تحفّظ. ونجد في رواية لعازار الفقير مؤشّرًا مهمًّا. عند موت لعازار والغني، طلب الأخير، عندما رأى الفقير في أحضان إبراهيم، أن يُرسَل إلى إخوته كي يحثّهم على عيش محبّة القريب، حتى يتجنّبوا عيش العذابات ذاتها بدورهم. فجاء جوابُ إبراهيم لاذعًا: “عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم” (لو 16، 29). يجب الاصغاء إلى الكتاب المقدّس لعيش المحبّة: هذا تحدّ كبير وُضِع أمام حياتنا. فكلمة الله قادرة على فتح أعيننا كي تساعدنا على الخروج من الفرديّة التي تؤدّي إلى الاختناق والعقم، فيما تفتح الطريق للمشاركة والتضامن.

14- إن أحد أهم الأحداث حول علاقة يسوع بالتلاميذ هو رواية التجلّي. صعد يسوع الجبلَ ليصلّي مع بطرس ويعقوب ويوحنا. ويذكر الإنجيليّون أنه، بينما صار وجه يسوع وملابسه بيضاء تتلألأ، كان هناك رجلان يكلّمانه: موسى وإيليا، اللذان يجسّدان الناموس والأنبياء، أي الكتاب المقدّس. وقد كانت ردّة فعل بطرس على هذه الرؤيا مليئة بالاندهاش الفَرِح: “يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا. فلَو نَصَبنا ثَلاثَ خِيَم، واحِدَةً لَكَ وواحدةً لِموسى وواحِدةً لإِيليَّا” (لو 9، 33). وفي تلك اللحظة، ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم، فخافَ التلاميذ.

يذكّر عيدُ التجلي بعيد المظال، عندما قرأ عزرا ونحميا النصّ المقدّس على الشعب، عند عودتهم من المنفى؛ ويستبق في الوقت نفسه، مجدَ يسوع استعدادًا لفضيحة الآلام، مجدًا إلهيًّا يُشارُ إليه أيضًا من الغمام الذي يحيط بالتلاميذ، رمزًا لحضور الربّ. هذا التجلّي يشبه تجلّي الكتاب المقدّس، الذي يتخطّى ذاته عندما يغذّي حياة المؤمنين. كما يذكّر الدستور العقائدي كلمة الله: “عندما ندرك الترابط بين مختلف معاني الكتاب المقدّس، يصبح أمرًا محتمًا فهم العبور من الحرف إلى الروح. ليس المقصود عبورًا آليًّا وعفويًّا. يجب بالأحرى أن يكون تخطّيًا للحرف” (عدد 38).

  1. إن والدة الربّ ترافقنا في مسيرة قبول كلمة الله، وهي الكليّة الغبطة لأنها آمنت بأن ما قيل لها مِن عِند الربّ سوف يتمّ (را لو 1، 45). وغبطة مريم تسبق كلّ التطويبات التي أعلنها يسوع للفقراء والحزانى والودعاء وصانعي السلام والمضطهدين، لأنها الشرط الضروريّ لأيّ غبطة أخرى. فما من طوبى لفقيرٍ لأنه فقير؛ بل ينال الطوبى إذا، على غرار مريم، مَنْ آمن بأن كلمة الله سوف تتمّ. ويذكّر بهذا الأمر تلميذٌ ومعلّم عظيمٌ للكتاب المقدّس، القدّيس أوغسطينوس: “إِذا شخص مِنَ الجَمعِ، متحمّس للغاية، رَفَعَ صَوتَه: “طوبى لِلبَطنِ الَّذي حَمَلَكَ”، فقال: “بل طوبى لِمَن يَسمَعُ كَلِمَةَ اللهِ ويَحفَظُها”. بمعنى آخر: حتى والدتي، التي وصَفتَها بالطوباويّة، هي طوباويّة لأنها تحفظ كلمة الله، وليس لأن “الكلمة” تجسّد منها وعاش بيننا، إنما لأنها تحفظ كلمة الله ذاته الذي به خُلِقَت، وأصبح فيها جسدًا” (حول إنجيل يوحنا، 10، 3).

عسى أن ينمّي الأحد المكرّس لكلمة الله عند شعب الله المعرفةَ الدينيّة والدؤوبة للكتاب المقدّس، كما علّم الكاتب المقدّس في العصور القديمة: “بلِ الكَلِمَةُ قَريبَةٌ مِنكَ جِدًّا، في فَمِكَ وفي قَلبِكَ لتعمَلَ بِها” (تث 30، 14).

أُعطِي في روما، قرب القدّيس يوحنا اللاتيراني، 30 سبتمبر/أيلول 2019

يوم ذكرى القدّيس جيروم، في بداية المئويّة السادسة عشر لموته.

أليتيا

عن ucip_Admin