أختر اللغة
الرئيسية | متفرقات | المُخا – المدينة التي أتت منها قهوة موكا بقلم د. ايلي مخول
المُخا – المدينة التي أتت منها قهوة موكا بقلم د. ايلي مخول

المُخا – المدينة التي أتت منها قهوة موكا بقلم د. ايلي مخول

يعرف الجميع اليوم كلمة موكا، أو على الأقل سمع بها من سمع. لكن ما هي الموكا بالضبط؟ كابوتشينو مع الشوكولاتة؟ نوع معين من حبوب البن؟ طريقة تحضير تقليدية من المنطقة التركية أم العربية؟ في الواقع، كل هذا صحيح، لأنه نادرًا ما يجري استخدام أي مصطلح آخر الى هذه الدرجة. تقع مدينة المخا في جنوب غرب اليمن، مباشرة على البحر الأحمر، وتستند الى تاريخ طويل ومتقلب بصورة خاصة. يُعتقد أن أصول المدينة ترجع إلى مدينة موزا الساحلية القديمة، التي تقوم في الموقع نفسه أو على الأقل في مكان قريب. كان جزءًا من أهم طريق للتجارة العالمية في ذلك الوقت، هو طريق الحرير.

الصعود 

لعبت المخا أيضًا دورًا حاسمًا في التجارة العالمية منذ أواخر القرن الخامس عشر، خاصةً في ما يتعلق بالقهوة. نمت حبوب البن بداية في إثيوبيا، وجرى زرعها لاحقًا في اليمن حيث كانت تشحن لفترة طويلة من المخا حصريًا إلى كل العالم المعروف آنذاك. كانت الحاجة قائمة من البداية، لأن الرغبة في الاستمتاع بالقهوة قد انتشرت كالفيروس من المنطقة العربية وعمّت جميع أنحاء أوروبا. في اسطنبول اليوم، تم افتتاح أول مقهى في منتصف القرن السادس عشر وبعد حوالي 100 عام تبعته المقاهي في لندن وباريس وأمستردام وهامبورغ. في ذلك الوقت، كان الناس في المخا بمنتهى السعادة لتلبية الطلب، يتملكهم الحرص على الاحتفاظ باحتكار البن. لهذا السبب، كانت الحبوب تسقى عادةً بالماء المغلي قبل تصديرها لمنع إنباتها.

في العصر الذهبي، كان هناك قانون يلزم كل سفينة عابرة بالرسو في ميناء المخا. وكان على كل مسافر من شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأحمر أو العكس أن يدفع الضرائب المستحقة على البضائع التي يحملها. في الفترة من القرن الخامس عشر إلى أوائل القرن الثامن عشر، لم تكن المخا أهم مركز تجاري للبن فحسب، بل كانت أيضًا أحد أهم المراكز التجارية في المنطقة بأسرها. وبالنسبة الى ذلك الوقت، كانت المخا مدينة تضم ما يصل إلى 30000 نسمة ويتردد عليها تجار من جميع أنحاء العالم. وكان هناك بريطانيون وهولنديون وفرنسيون  ودنماركيون يديرون مستودعات ومعامل خاصة بهم هنا كي يلبوا تعطش بلدانهم للقهوة. ولكن مثل كل شيء في الحياة، كانت قصة نجاح المخا سريعة الزوال. وفي وقت من الأوقات تمكن الأوروبيون من نشر شتلات البن وغرسها في مستعمراتهم. وخلال القرن الثامن عشر، جِيء بالقهوة إلى إندونيسيا  وسورينام  والبرازيل ومنطقة البحر الكاريبي وغيرها. هنا لم تكن ظروف زراعة البن سيئة وأصبح احتكار البن من الماضي. وبدأ بالفعل أفول تجم المدينة الساحلية.

المدينة اليوم 

أضحت المخا اليوم عديمة الأهمية تقريبًا حيث يبلغ عدد سكانها حوالي 10000 نسمة فقط. وباتت مستودعات البن القديمة والمحلات التجارية في حالة سيئة، ويبدو أن الميناء محكوم عليه بالزوال. في العام 2013، صدّرت اليمن التي كانت رائدة في السوق العالمية ما يقرب من 20 ألف طن من البن. إن ما يبدو للوهلة الأولى كأنه كمية ضخمة  ينكشف عند إلقاء نظرة على المنافسين من أجزاء أخرى من العالم. البرازيل، على سبيل المثال، أنتجت في الفترة نفسها قرابة ثلاثة ملايين طن، وحتى دول مثل بوروندي ومدغشقر والسلفادور تتقدم على اليمن بكثير. في الوقت الحاضر، يعيش سكان المخا بشكل رئيس من صيد الأسماك والسياحة الهامشية. ومع ذلك، فإن المدينة تملأ الأسماع كل يوم – في مقهى الشارع في باريس، وكذلك في ستاربكس (توصيل الطعام وغيره) بمدينة نيويورك أو في مطعم برليني. في المرة القادمة التي تأتي فيها القهوة على الطاولة، أو تملأ جهاز صنع القهوة أو تنتظر مقعدًا في المقهى، ما عليك سوى أن تأخذ  تاريخ مدينة المخا في الحديث.

تم إنشاء أول مقهى على أرض أوروبية في القسطنطينية (اسطنبول اليوم) 1554. تبعه في العام 1647 “مقهى فلوريان” الشهير في البندقية. على أثر ذلك، أقيمت سلسلة مقاهي في أكسفورد، لندن، مرسيليا، بريمن، هامبورغ، فيينا وباريس. وتبعتها مدن أخرى. أما في ألمانيا فكان الأول هو مقهى “شوتينغ” 1673 في بريمن.

كانت المقاهي فيما مضى ملتقى للعلماء والفلاسفة والكتاب والفنانين. فيها نشأت أعمال لأدباء أمثال جان بول سارتر وإرنست همنغواي وتوماس مان وهوجو فون هوفمانستال والشاعر الألماني الكبير غوته. كان لكل مقهى جمهوره البارز وغالبًا ما شكل موسيقاه الذاتية. في فيينا على سبيل المثال تطورت موسيقى راقصة خاصة بها باستخدام بالآلات الوترية. وفي باريس، أطلقت في المقاهي بضعة آلاف من الأغاني – العديد منها بمحتوى سياسي حسب متطلبات العصر.

منذ الأيام الأولى ارتاد العرب المقاهي.

أحد أبرز روادها كان الروائي والكاتب الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب 1988 الذي كانت له علاقة خاصة بالمقاهي ليس لجهة كونها جذبته إليها بقدر مساهمته شخصيا في صنع كل هذه الجاذبية والخيال حول المقاهي، التي تحوَّلت على يده وأدباء آخرين من مجرد مكان يلتقي فيه اناس لاحتساء الشاي والقهوة فحسب، بل أيضًا مقرا لعقول نيّرة.

كان محفوظ من أبرز الأدباء، الذين ارتبطت أسماؤهم بالمقاهي، وأدمن هذه العادة، منذ كان صغيرًا يرافق والده في الذهاب إلى مقهى “الكلوب المصري”، ليستمر في التنقل، بعد أن كبر، بين الكثير من “القهاوي” محافظًا على تلك العادة حتى شيخوخته، لدرجة أنه لم يذكر أحد أنه زاره في منزله سواء من أصدقائه أو معارفه إلا في سنواته الأخيرة، عندما أقعده المرض.

*تاريخ المخا أو “مخن” الحميرية.. مدينة التجارة حكم أهلها سواحل أفريقية باسم أمير المعافر في عهد الملك “كرب إيل وتر” وتعني المتكبر القريب من الإله إيل*

د.ايلي مخول

عن ucip_Admin