شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | آينشتاين، ذلك المتمرّد
آينشتاين، ذلك المتمرّد
أينشتاين

آينشتاين، ذلك المتمرّد

مقابلة مع فرانسواز باليبار، أستاذة فخريّة في الفيزياء، جامعة باريس السابعة – دينيس ديديرو، نُشرت في مجلة “Histoire

ماذا اكتشف ألبرت أينشتاين عام 1905؟

فرانسواز باليبار: لسنا بصدد “اكتشاف”، بل بمجرّد بناء. في مقالة أولى كتبها في مارس 1905، يبدأ آينشتاين من ملاحظة أن لون الضوء المنبعث من جسم ساخن يتغير مع الحرارة. فبنى عليها الفرضية لشرح تلك الظاهرة ومفادها أن الضوء، بجانب طبيعته المستمرة (إنها موجة)، يتكوّن من حُبيبات طاقيّة، تسمّى “كوانتا” (سيُطلَق عليها “فوتونات”).

ثم طرح، في مقال آخر، حزيران 1905، نظرية النسبية المحدّدة، التي تساعد في توحيد الميكانيكا والكهرومغناطيسية، فأوضح كيف يستجيب الضوء، هو أيضًا، لمبدأ النسبية1.

هنا يتغيّر كل مفهومنا للزمان والمكان. يجب أن ندرك أن المكان ليس وحده نسبيّ (ما كان معلومًا)، بل ان الزمان أيضًا هو نسبيّ : وعليه، يكون حدثان بالنسبة إلى راكب قطار متزامنين، ولا يكونان كذلك بالنسبة الى شخص يراقب القطار والراكب. وهكذا لم يعد ممكنًا، منذ آينشتاين، اعتبار الزمان شيئًا مطلقًا.

   والصيغة E = Mc2 ، من أين أتت؟

تشكل المعادلة E = Mc2 مُلحقًا لنظرية النسبية المحدودة. إنها تبلور فكرة (طُرحت ولكن لم يتم إثباتها بعد) مفادها أن الطاقة والكتلة متعادلتان : إذا أطلق جسم ما مقدارًا من الطاقة (إذا كان يرسل ضوءًا، على سبيل المثال) نقصت كتلته، والعكس صحيح.

في المجمل، هناك خمس مقالات تأسيسية نشرها آينشتاين في العام 1905. ولم يكن تجاوز السادسة والعشرين من العمر… ثم أكمل بناءه عام 1916 بنظرية النسبية العامّة، التي تقترح نظرة جديدة للكون.

يتهم البعض آينشتاين بأنه استعان بأفكار سبق أن صاغها آخرون، بخاصّة الفرنسيّ هنري بوانكاريه.

بوانكاريه صاغ فعلاً فكرة أن مبدأ النسبية يمكن تطبيقه على الضوء. لكنه من أجل ذلك، وجب عليه أن يفترض، مثل أسلافه، أن الضوء ينتشر في وسط، هو الأثير، بلا كتلة ولا كثافة ولا سرعة.

أمّا نظرية آينشتاين فهي أسمى بكثير بما أنها ليست بحاجة إلى هذا المفهوم الخاصّ بالأثير. علاوة على ذلك، لم يستطع بوانكاريه أبدًا تصوّر الضوء على أنه مكوّن من حُبيبات.

أخبرنا عن الرجل بعينه. قد خلّف آينشتاين صورة الطالب البائس، التقليدي …

صحيح أن آينشتاين لم ينه دراسته الثانوية في  Gymnasium ميونيخ (مدرسة ثانوية يُدرس فيها الّلغات القديمة بتوسّع). وهذا ليس لأنه كان طالبا بليدًا. أوّلاً، كان يريد الانضمام إلى عائلته التي استقرّت في إيطاليا إثر إصابتها بسوء الحظ. وقبل كل شيء كان يرفض أداء الخدمة العسكرية. هذا هو أحد الأسباب الرئيسة لمغادرته ألمانيا في العام 1894. صحيح أيضًا أنه لم يتحمّل الانضباط العسكري في الثانويّة.

وبما أنه لم يُنهِ دراسته، فقد رفض الإنتساب الى الجامعة، ما سبّب يأس والده، وهو يهودي غير ممارس، تحرّر للتوّ (إنعتاق اليهود الألمان يعود فقط إلى العام 1869) ولم يحقّ له متابعة دراسته. رغم ذلك برع في دراسته بالمعهد العالي للصناعات والهندسة Polytechnikum بزوريخ، حيث ألِف الأعمال العلميّة الأكثر تقدّمًا. هو تلقّى إذًا تدريبا ممتازا.

ثم انه بعد ان فشل في الحصول على وظيفة في الجامعة، إضطرّ الى الإكتفاء بعمل في مكتب تسجيل براءات الاختراع في بِرن. ولكن هذا ربّما كان فرصته. وكما اعترف بنفسه، فقد أتاح له ذلك وقت فراغ لإجراء بحوثه الخاصة، التي لم تُبعده بالتالي عن الأوساط العلمية.

كما أنه لم يكن مجهولاً عندما نشر أعماله عام 1905.  زِد على أنه لا يُعقل أن يتمكّن أحد اليوم، بدون أي مصدر تزكية له وزنه، من النشر في مجلة علميّة  ذات مستوى رفيع. ولا بدّ من الإثناء على الجامعة الألمانية، التي أخذت فورًا على محمل الجِدّ نتائج هذا “المعتكف” في مجال البحث. ومع ذلك، عندما حصل على جائزة نوبل عام 1922، بموضوع التأثير الكهروضوئي، الذي ليس سوى تفصيل في منشوراته – ظلت نظرياته صعبة القبول بالنسبة الى لجنة التحكيم.

هل يمكننا القول ان آينشتاين كان ضدّ الأعراف؟ أنا لا أحبّ استخدام كلمة باتت اليوم في غير موضعها، ذلك أن موقفه هو أعمق من ذلك بكثير – وأشدّ مجازفة. نذكر أنه رفض في وقت مبكر أن يسلّم بالأمر بلا تأكّد منه. ولم يقبل أبدًا الرضوخ إلى حجج سُلطويّة، وكان دائما حذرًا  من المؤسسات والدين والمدرسة.

أصبح آينشتاين اليوم أيقونة. ما هو مسبّب شعبيته؟

أتت شعبيته بسرعة كبيرة، منذ العام 1919، وذلك بفضل عملية قام بها الفلكي الملكي، السير آرثر إدينغتون. استفاد الباحث الإنكليزي من كسوف الشمس، فقام برحلة استكشافية إلى مستعمرة برتغالية في عُرض بحر أفريقيا الغربية لاختبار أحد تكهّنات نظرية النسبية العامة، نشره آينشتاين، كما قلنا في العام 1916 : بحسب تلك النظرية، فإن جميع الأجسام الموجودة في الفضاء إنّما تعدّل فيه ويؤثّر بعضها على بعض.

وقد دعا إدينغتون مجمل الصحافة للإبلاغ بالنتائج التي تؤيّد نظرية آينشتاين. وقد حظي الحدث بتغطية إعلامية غير مسبوقة؛ وأصبح آينشتاين أسطورة حيّة !

هو نفسه لم يعمل للحفاظ على هذه الشعبية. فقد تزامنت مع صعود وسائل الإعلام  وعولمة الخبر. صحيح أن ألاعيبه، وإحساسه بالصيَغ، ساهمت في صنع صورته. الشيء المهم ليس هنا: لقد عرف في وقت مبكر جدًا كيف يستخدم شعبيته للنهوض بمثله العليا.

ماذا كانت تلك المثل العليا؟

معركته الكبرى كانت من أجل السلام. بعد الحرب العالمية الأولى (التي لم يشارك فيها، لكونه حصل على الجنسية السويسرية)، ساعد كثيرا المعارضين للخدمة العسكرية. كذلك بذل العالِم كل ما في وسعه لدعم لجنة التعاون الفكري التابعة لعصبة الأمم، إلى جانب ماري كوري.

لكن كل شيء تغيّر في العام 1933، عندما تولى هتلر الحُكم في ألمانيا. ولم يعد مذهب المسالَمة مطروحًا. وردًّا على أحد رافضي الخدمة العسكرية البلجيك قال: “في ظل الظروف الحالية ، أيّها المواطن البلجيكي، أنا لا أرفض الخدمة العسكرية ؛ لا بل أقبلُها طوعًا مع الإستعداد للمساهمة في صَون الحضارة الأوروبية. “

1933 كان أيضًا العام الذي غادر فيه ألمانيا نهائيًا (كان يدرّس في برلين منذ العام 1914). وفي الولايات المتحدة استضافته جامعة برينستون حيث بقي حتى وفاته.

كان آينشتاين ملتزمًا منذ  زمن بعيد بإنشاء موطن لليهود في فلسطين – حتى لو لم يكن يعتقد بأن على جميع اليهود أن يهاجروا إلى هناك – وأجهد نفسه في بناء الجامعة العبرية في القدس. مع صعود النازية، حاول جلب أكبر عدد ممكن من اليهود الألمان إلى الولايات المتحدة. وعمل بعد الحرب على دعم إنشاء إسرائيل.

مُسالم يقال عنه انه أب القنبلة الذرّيّة …

هذا التأكيد يفاجئني دائمًا. فبين المعادلة E = Mc2 وهيروشيما، استغرق الأمر أربعين عامًا من البحث، واكتشاف النشاط الإشعاعي الصناعي والسيطرة على التفاعل المسلسل، إلخ.

صحيح أنه كتب إلى روزفلت في العام 1939 ليُعلِمه بأنه بات الآن بالإمكان تقنيًا صنع قنبلة ذرّية. إلاّ أن هدفه كان إخطار الرئيس بأن النازيين أوشكوا على الإستفادة من هذا الاحتمال. أمّا هو فلم يشارك مطلقًا في صنع القنبلة. وبعد الحرب ساعد العلماء الذين كانوا يشعرون بالقلق من عدم إعطائهم حق الإطّلاع على استخدام أبحاثهم (ربما عسكريًّا). لا أرى كيف يمكن إلقاء مسؤولية القنبلة الذرية على عاتق آينشتاين.

ما هو الأثر الذي تركه أينشتاين؟ هل تشكّل نظرياته موضوع خلاف؟

لم يتم وضع أي من نظرياته موضع تساؤل. على أن أهمّ أثر خلّفه آينشتاين في حياتنا اليومية هو نظرية الكمّ، والتي تنبع من فرضيته أن الضوء يتكوّن من كوانتا. غير أن آينشتاين نفسه كان جِدّ متحفّظ  بشأن تبعات نظريته. فقد ظل يصوّب على الأخطاء والتناقضات التي اتّسمت بها التطوّرات المعروضة عليه. وتبيّن أن اعتراضاته كانت وثيقة الصلة بالموضوع. وبفضل الأسئلة التي طرحها، ألزم خلفاءه على المضي قدمًا في اكتشاف العالَم الكوانتي.

عمليا، ماذا ساعدت نظريات آينشتاين في الإبداع؟

كل حياتنا اليومية مستمدة من تطوّرات نظرية الكم: الراديو، التلفزيون، الرقائق الإلكترونية، المعلوماتية، إلخ.

في ما يخصّ نظرية النسبية العامة، يعدّ نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أحد تطبيقاته النادرة في الحياة اليومية : فالموضعة الدقيقة التي يحدّدها تصبح ممكنة لأننا نعرف توقّع وتصحيح الآثار الناتجة عن النسبية العامة.

هل يمكن القول أن أينشتاين كان عبقريًا؟

أنا لا أعرف ما هي العبقرية ! ما أريد أن أقوله هو أن آينشتاين كان لديه حاجة استثنائية، وهي طريقة لا تقبل تمرير أي شيء يكون جزءًا من قوّته. والمعجزة هي في أن تلك الحاجة لم تفقده صوابه !

لقد عرف أينشتاين كيف يكون عظيمًا حتى في إخفاقاته، بالطريقة التي أدرك بها أخطاءه. والكثير من الاعتراضات التي أثارها حول عمل الآخرين هي أسئلة لم يستطع أحد إلا أن يطرحها على نفسه في يوم من الأيام. ولا يزال المستقبل يحكم له.

  1. ينص مبدأ النسبية على أن الظواهر الفيزيائية تحدث بالطريقة عينها (وبالتالي فإن قوانين الفيزياء هي نفسها) في نظامين مرجعيّين (أنظمة الإحداثيات) في عمليّة تحوّل متّسق فيما بينها. وقد أُعلن هذا المبدأ أوّلاً بالنسبة إلى حركة الجزيئات، التي تعالجها الميكانيكا. منذ القرن التاسع عشر وصياغة نظريات الكهرباء والمغناطيسية والضوء ، وصف الفيزيائيون الضوء بأنه موجة متواصلة لا يمكن أن ينطبق عليها مبدأ النسبية. هذا هو التناقض في نظام الفيزياء الذي أثاره بوانكاريه وآينشتاين.

المصدر: د. ايلي مخول

عن ucip_Admin