شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | الإنتصار الألماني المبهم بقلم د.ايلي مخول
الإنتصار الألماني المبهم بقلم د.ايلي مخول
الإنتصار الألماني المبهم

الإنتصار الألماني المبهم بقلم د.ايلي مخول

من غير المألوف ان يستولي الذهول على حضور اجتماع علمي، سيّما وأن الأقوال التي يسمعون تتعارض مع قناعاتهم. هذا ما حصل أثناء ندوة أقيمت في باريس تحت عنوان  “أيار – حزيران 1940، هزيمة فرنسية، إنتصار ألماني”. فبدعوة من البروفسور موريس فاييس عرض خبراء أميركيون وألمان وإنكليز  بارزون محصلة أعمالهم حول انهيار فرنسا العسكري. لم يستوعبوا كيف أصيبت بتلك الهزيمة التي فسّرت على أنها محتّمة . في الواقع أن الجيش الفرنسي لم يكن دون مستوى الجيش الألماني؛ وجنوده الذين لم يهربوا من أرض المعركة غالبًا ما قاتلوا ببسالة. أمّا هتلر فلم يتصوّر قطّ أن قواته ستدخل باريس بعد شهر من الهجوم. في الجزء المخصّص لمناقشة وثائق تلك الندوة وعنوانه”خرافة الحرب الخاطفة” يضرب كارل – هايس فريزر صفحًا عن الأفكار المسبقة . وبواسطة أعمال باحثين آحرين أجانب وفرنسيين يمكن الإحاطة بالجوانب غير المعروفة من تلك الهزيمة.

ساد القلق صباح ذلك الثالث من أيلول 1939 في مستشارية الرايخ حين أطلع هتلر على إعلان الحرب البريطاني الذي نقله السفير نيفيل هندرسون ثم زميله الفرنسي روبير كولوندر بعده بلحظات. إذن إن لتخاذل الديمقراطيات حدود. ففي العام الذي سبقه تركت باريس ولندن تشيكوسلوفاكيا لقدرها، لكن المفاجأة هي هذه المرة أن الحلفاء سوف يلتزمون بتعهداتهم تجاه بولونيا.

“إذا خسرنا الحرب فلترحمنا السماء”، همس غورينغ في أُذن باول شميت، كبير مترجمي هتلر، إذ أن مارشال الرايخ “لم يقم سوى بالتعبير عن الشعور السائد في الدوائر الألمانية العليا، من نازية وغيرها.

من فرط ما غامر الزعيم في كل شيء، عرّض مستقبل ألمانيا للخطر. ذلك أن الرايخ الثالث أمامه كل الأسباب لخسارة الحرب والشيء القليل لربحها.

 

القوات المسلّحة كانت الأكثر تنظيمًا

إزاء خصم متخلّف التجهيز لم تستغرق الحملة على بولونيا سوى ثمانية عشر يوما. أمّا أن تكون المقاومة البولونية قد طالت خمسة عشر يومًا، فلأن القوات المسلحة والطيران ربما وجدوا أنفسهم بحاجة الى ذخائر بفعل النقص في الإنتاج الصناعي. ويعتقد أن هجومًا فرنسيا انكليزيا كان كافيا لاختراق الستار الدفاعي الضعيف القائم على طول حدود الراين. لكن تخاذل الحلفاء وحده أنقذ الزعيم. ذلك التخاذل إيّاه الذي سيعطيه الوقت، أثناء “الحرب العجيبة”، لتنظيم جيشه. في الجانب الألملني جرى بشكل مكثّف تدريب الجنود الذين لم يكن لدى غالبيتهم حتى ذلك الحين أي استعداد للقتال. وباتوا مزوّدين بكميات هائلة من الذخائر. وأمكن تطوير التجهيزات المادّية (من تشرين أول 1939 الى أيار 1940، ارتفع عدد الدبابات فئة III من 151 الى 785، وفئة IV من 143 الى 290). ويعود الفضل الى الحكومتين الفرنسية والإنكليزية الإنهزاميتين في تجهيز مصفّحات من صنع تشيكيا ثلاث فرق عسكرية تزوّد بها الجنرال رومل من أصل عشر ألقت بها القوات المسلّحة في معركة أيار 1940، وكذلك الى القيادة الفرنسية العليا التي جعلت من جنودها، بسبب عقدة خط ماجينو، بنائين بالخرسانة لمخابئ مقاومة للقنابل بدلاً من تهيئتهم للقتال.

الواقع أن هيكلية القيادة الألمانية لم تكن في البداية متكيفة لحرب سريعة الحركة وأن نصف القوات فقط قد تابع تدريبا مناسبا. والمعنويات، باستثناء فرق النخبة، ليست أفضل مما كانت عليه لدى الفرنسيين.

 

قوات التحالف هي المتفوّقة

في أيار – حزيران 1940 كانت البحرية الحربية الألمانية في مستوى أدنى بكثير من الأسطولين البريطاني والفرنسي. أمّا القوات المسلحة فكانت تعدّ 4,2 ملايين رجل (زائد 100000 عنصر من فرق الحماية إس إس التابعة للحزب النازي بقيادة هيملر ذات النوعية العسكرية الرديئة) مقابل 5,5 ملايين فرنسي، بمن فيهم جنود المستعمرات: 500000 جندي من الحملة العسكرية البريطانية في القارة (على اليابسة): 400000 هولندي و650000 بلجيكي. من ناحية المدفعية كان الوضع أسوأ: 7300 مدفع الماني مقابل 14000 في معسكر الحلفاء. المدرّعات لم تكن حالها أفضل: 2439 دبابة ألمانية، منها 524 مصفحة فئة I (مصفحة رشاش) و955 مصفحة فئة II مقابل 4204 مدرعات حليفة، منها 3254 فرنسية، بعضها أفضل حماية وتسليحًا (300 سُومْوا و274 دبابة فئة ب). الفارق الوحيد هو حجمها. في أيار 1940 أمكنت الهجمات المضادة النادرة التي شنتها سوموا ودبابات الفئة ب و “ماتيلدا” البريطانية زرع الرعب في صفوف أعدائهم، إنما فقط على بضع كيلومترات. وتوقفت بعدها لنفاد الوقود. من جهة أخرى فإن الطفرة الناقصة للإنتاجية الصناعية الألمانية (76 بالمئة 1940 مقابل 250 بالمئة في بريطانيا) جعلت القوات المسلحة خاضعة لطريقة جرّ تجاوزها الزمن: (“حشد” 2,7 مليون حصان مقابل 1,4 مليون في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918).

بالنسبة للطيران أخيرًا كان بتصرف الألمان 3575 طائرة يقابلها 3562 فرنسية عدا الطائرات الإنكليزية والهولندية والبلجيكية. إلاّ أنه نقص قابل للتوازن بسبب عقائد الإستخدام المتعارضة. فالرايخ الذي كان يراهن على حرب قصيرة جعل السلاح الجوي يستخدم الجزء الأكبر من قواته دفعة واحدة، بينما عمد الفرنسيون الذين كانوا متأكدين من أن الأمور تتجه نحو تكرار ما حصل في الحرب العالمية الأولى إلى توفير أسرابهم التي سيظل قسم منها مرابطًا في جنوب البلاد وحتى في شمال افريقيا. الحذر إيّاه لدى البريطانيين: فلم يقبل تشرشل استخدام طائراته من طراز سْبِتفاير ضد مِسِرشميت 109 الألمانية إلاّ في محاذاة السواحل الإنكليزية. النتيجة أن الألمان دفعوا لحظة الهجوم على الجبهة الغربية، بحسب كارل هاينس فريزر، ب 2589 طائرة مقاتلة عملياتية في مقابل 1453 للحلفاء. وإذا كان ميزان مجمل القوى يميل لصالح الحلفاء، فإن ألمانيا النازية هي التي تغلّبت، في الإستراتيجية والتكتيك والإمدادات، بدافع جرأة غير مسبوقة.

 

هل كان لدى هتلر خطة ميدانية؟

بعد أن وقع في حيرة بسبب خدعته الفاشلة ضد بولونيا، كلّف هتلر أركان حربه بوضع خطّة ميدانية. وللأسف أن عقول القوات المسلحة لم تتمخض سوى عن صيغة مجمّلة لخطة شْليفن الذي قاد 1914 هجوم الجيش الأمباطوري. وتتلخص فلسفة الموضوع في توجيه ضربة منجل كبير الى الشمال الغربي عبر بلجيكا المحايدة وصولاً الى سواحل المانش مع تطويق وإبادة الجيشين الفرنسي والبريطاني. فقد كان الجنرال فون شليفن يأمل حينذاك بالتغلب عليهما في الغرب منذ الأيام الأولى وذلك بتوجيه ضربة حاسمة قبل التحوّل ضد الروس. لكن الخطة لم تنجح. من أسباب فشلها المبادرة المبالغ فيها التي تركت لقادة الوحدات العسكرية. أحدهم هو الجنرال فون كلوك الذي اختصر من تلقاء نفسه سعة ضربة المنجل، فراح يتفقد الجناح الألماني مرتكبًا خطأ استفاد منه الفرنسيون للفوز في معركة المارن. وقد لفت هتلر النظر الى أن “هذا النوع من العمليات لن يتكرر بلا عاقبة”. ولا بد من ايجاد شيء آخر.ن وقع في حيرة بسبب أو لكن ماذا؟ هذا ما وجده الجنرال المتألق إيريش فون مانشتاين. إلاّ أن خطته اعتبرت جامحة الى درجة أن الدوائر العليا سعت بكل قواها كي لا يسمع الزعيم بها أبدًا.

الدبابات ثوّرت فن الحرب

كان مانشتاين خبيرًا بالخطط الحربية الإستراتيجية منقطع النظير. أمّا رجل الدبابات فهو الجنرال هاينس غودريان. وما يؤسف له بالنسبة للحلفاء أن كليهما كانا على تفاهم تامّ.

في تقاليد المدرستين البريطانية وبخاصة الفرنسية لما بعد 1918 (التي جسّدها الجنرال إستيان وفريقه الذين ينادون بحرب تحريك المصفحات)، إنما بمزيد من الإبداعية، استخدم غودريان المدرعات بمثابة قوة مستقلة مطلقًا العنان لسرعتها الذاتية لا لخطى المشاة البطيئة. تلك النقطة لم تكن جديدة. فحيث يجدّد فريزر يكون عندما يقيم رابطًا بين تكتيك غودريان والمجموعات الألمانية غير النظامية 1914 – 1918. تلك الوحدات المستقلة من خيرة المشاة شكّلت رؤوس حراب فعلية، إذ كانت تقوم بعمليات اختراق على طول كيلومترات دون أن تهتم بتغطية جوانبها. وتلك وسيلة وعقلية استطاع ضباط الفِرق المدرّعة نقلها الى العصر الآلي.

أضف الى ذلك أن الجنرالاات الفرنسيين في الحرب الكبرى، بدافع التقاليد الجمهورية، رفضوا تجزئة أفواجهم بهذا الشكل المنهجي الى قوات من الصنف الأول والثاني والثالث. وبنجاح، كما يشهد على ذلك القصف الرهيب الذي قام به “الشعرانيون” (وهو لقب الجنود الفرنسيين في الحرب العالمية الأولى) عمومًا. وكان لا بد بعد انتهاء النزاع من تحطيم تلك العناصر غير المنضبطة. وهذا ما يفسّر بلا شك المقابلة الباردة التي لقيتها النظريات المجددة التي أطلقها المقدَّم ومن ثم الكولونيل ديغول على “الجيش المحترف” و”القوات المدرعة”. فبالنظر الى دور الناجين من مجموعات وسواها من فرق المتطوعين الألمان أثناء صعود النازية، رأى كثيرون في رئيس فرنسا الحرّة المقبل نوعًا من مرشّح الى عسكرية (نظام سياسي عماده الجيش) قوية.

مانشتاين، الخبير بالخطط الحربية الإستراتيجية؛ غودريان، رجل الدبابات. ولأجل تبنّي الخطة كان لا بد من الرجل الثالث. هتلر بعينه والصدفة التي جمعت في شباط 1940 مانشتاين والكولونيل شْمُونْت، رئيس مكتب مرافقي الزعيم. وقد أعجب المستشار بتلك الخطة التي تعطيه الحلّ لمشكلته (الخروج بسرعة من حالة النقص المادي) وأخذها على عاتقه. وبعد أن نجحت اعتقد أنه كان صاحبها. وأوكل الى غوبلز، مهندس الدعاية، بناء أسطورة هتلر “مبتكر” الحرب الخاطفة – الأمر الذي يهاجمه كارل هاينس فريزر اليوم بالوثائق.

 

رجال الدبابات الألمان يتجاهلون الأوامر

بعد أن أبدت هيئة أركان القوات المسلحة شغفها بهذا الرهان المجنون، راحت تضاعف العقبات. صحيح أنها قبلت تشكيل جيش مدرّع قوامه خمس فرق دبابات (نصفها دبابات ألمانية) وثلاث فرق مشاة محركة، إلاّ أنها عهدته لا إلى غودريان، بل الى الجنرال فون كلايست الذي لا يجمعه جامع بخبير دبابات.

 

الهجمة “التائهة” لا مفرّ منها؟

في بودانج قاومت سريّة من قناصة الأَردين البلجيكيين فرقة الدبابات الأولى وأضاعت عليها تسع ساعات في وقت يُحسب الزمن بالثواني. فبالقرب من سيدان وليلة 13 الى 14 أيار كان هجوم المدرعات الفرنسية سيّئ الإعداد، على وشك سحق رأس جسر الفوج الأول  للرماة الألمان. في بولسون التي كانت قبل ساعات مسرح هلع شائن من الجانب الفرتسي، تمكنت مدرّعات القوات المسلحة من بلوغ المرتفعات قبل بضع دقائق فقط من المدرعات الفرنسية. بعد ظهر 14 أيار عينه كان بإمكان الهجوم المضاد الذي أعدّته مدرعات فرنسية إعادة الوضع الى حاله. الرجال على أهبة الإستعداد والمعنويات عالية. لكن الهجوم تأخر لأن القيادة مستمرة في العمل بنمط 1914 – 1918 مع فارق وحيد يميزها عن ندّها الألماني: فهو كان يطاع! إذ ان معركة فرنسا، بعد 14 أيار باتت خاسرة حتى ولو ظلّت القيادة الفرنسية العليا تتجاهله. وإذا لم تكن الهجمة محتمة فقد عجزوا عن إيقافها في الموعد المضروب، ناهيك عن الإزدحام الهائل: 250 كلم. من العربات الألمانية التي تعامى الحلفاء عن كشفها أو تدميرها بضربات جوية.

 

هتلر يخشى “معجزة مارن” أخرى

في 17 أيار تم فصل غودريان الذي يقود إحدى الفرق الثلاث الصغيرة التابعة لجيش كلايست بسبب الإفراط في الجرأة. لكن شيئًا بدا في 21 أيار أنه يبعث طيف هجوم فرنسي بريطاني مشترك. فقد قامت فرقتا دبابات ثقيلة انكليزية من طراز “ماتيلدا” التي يبلغ تصفيحها 80 ملم.، يؤازرها ما تبقى من الفرقة الثالثة الفرنسية الآلية الخفيفة بهجوم مضاد في قطاع أراس. فأشاعت الرعب في الصفوف الألمانية. “هجوم معاد عنيف مصدره أراس. النجدة! النجدة!” تلك هي الرسالة التي وصلت الى أركان حرب فرقة رومل السابعة للدبابات. أمّا ردة الفعل فجاءت تكتيكية دون أهمية تذكر، حيث راح كل من روندشْتيت وهتلر يتذكران تلك السنة الرهيبة 1918 عندما أحبطت الضربات الألمانية العنيفة تجاه المتانة الإستثنائية للتحالف الفرنسي البريطاني.

وإذا ما تكرّر “ذلك”؟ روندشْتيت كان أول من “طقطق”. فأصدر منذ الثالث والعشرين أمرًا بوقف هجمة الدبابات وإعادة تنظيم تشكّل القوات المسلّحة. وجاء التأكيد من هتلر في الرابع والعشرين، الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين ظهرًا. أمّا الأخوّة المستعادة بين الجنود الفرنسيّين والبريطانيّين فسوف تعطيهم الراحة الضرورية لتلك “المعجزة” الأقل روعة من معجزة المارن، لكنها العزيزة جدًا: عملية الإنزال في دانكِرك.

لقد ربحت ألمانيا معركة، إنما غير كاملة. وفي الوقت عينه خسرت الحرب •

د.ايلي مخول

عن ucip_Admin